U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

الظُّروف تصنع جُحرًا لخبيث ابن خبيث


 


 

ومع الزلزال تكون الرعشة، وتكون الهرولة، أُدْرِكُ أنك تعرف هذا، وأعرف ماذا ستقول لو أني سألتك عن سبب سقوط العمائر وقت الزلزال وتفتتها، ستقول إن الرعشة تُخَلْخِل ما بين الطوب والخرسانة المسلحة وتضربه بالفراغ فتتهاوى. أنت ستقول هذا، وأنا سأقول كلامًا آخر، لأني أعلم علمًا آخر أعتقد أنه الأصدق، وسأطرحه عليك الآن، ولا عليك إن أنت شَغُفْتَ به أو أنك ألقيت به في صندوق القمامة.

علمي هو أن العمائر – الشواهق منها والدوانى – أشخاص واقفة، أشخاص فيها قوة المردة على كل أبناء وبنات آدم، وعلى كل خِلْفَة الحيوانات، وفيها رقة الزجاج أمام العواصف والزلازل والبراكين، ثم أنها وديعة وداعة أمام الملائكة تجعلها تقف أمامها خاضعة وهي تكبِّل أقدامها بالأرض غير المأمونة، وأكثر من مرَّة أرى ملائكة تقيِّد العمائر بالأرض، وهذا غالبا يحدث في هسيس ما قبل الفجر، وتراها معي الديوك، إلا أن الديوك لا تتحمل ما أتحمله فيعلو زعيقها، والحق أن المشهد يكون صعبًا، وعليك أن تتخيل الملاك الذي لا وصف لضخامته، والذي له آلاف الأجنحة الخفَّاقة، وهو يقبض على العمارة ويكبلها بينما ينظر إليها منذرًا، تخيَّل لو قدرت!!! وبالطبع تفعل الملائكة هذا لأنها تحب البشر، فكيف سيكون مصيرنا لو أن هذه العمائر قدرت على المشي بنا، والقعاد بنا، والنوم بنا؟ وماذا كنا سنفعل لو أنها أحبَّت في وقت ما أن تَتَنَطَّط وتلعب مثلنا؟ ستكون مشكلة!

وعندما يأتى الزلزال ويهز الأرض، ترتعش هذه العمائر من الرعب، وعندما تحاول الجري لتختبئ فإنها تسقط، ولأنها مثل الزجاج في وجه غضب الطبيعة فإنها تتكسَّر، وأنت تنظر إليها الآن، إنها كلها محطمة، كما إنها في سقوطها دَعَكَت السيارات، وبعض الناس أمعاؤهم خرجت من أدبارهم، وعيونهم بَظَّت من محاجرها، وسحب الغبار كانت سحبًا داكنة تطير في الهواء طيران الحدأة المتمتعة بمراقبة سرب كتاكيت مَيِّت، ولا تتعجب من هذه الحال، لأنه ليس عجيبًا أن يكون طالما كان الزلزال، ولكن تعجَّب من الذي سأقوله لك الآن: بعد أن تمَّت لحظة الزلزلة، وسقطت العمائر، وتقصفت أعمدة الإنارة وإشارات المرور، استطعت أن ألمح غرفة كاملة غير مُهشَّمة، تأخذ شكل الصندوق المائل فوق ركام إحدى العمائر، كانت الغرفة في وضعها هذا تشبه علبة ثقاب ملقاة بإهمال في قُفَّةٍ مملوءة بِحَبَّات الفول الصاحى أمام بائع الحبوب، واستطعت أيضًا أن ألمح في أحد حوائطها شقَّا صغيرًا جدَّا، لقد رأيته جليَّا بعينيَّ اللتين هما عينا صقر، وأغراني هذا بالتحول إلى هواء، وبِيُسْر تحولت إلى هواء، وتسربت من الشَّق إلى داخل الغرفة، لقد كان أثاثها متراكمًا بعد أن تهشَّم بطريقة جعلته يصنع جحرًا جيدًا جدَّا لاختباء حيوان ماكر، حيوان ماكر أصغر حجمًا من الثعلب، وكان واضحًا من الأثاث المتكسِّر أنها غرفة نوم، فهناك كانت قوائم " دولاب" مشطورة، وألواح سرير تشابكت مع أدراج "شيفونيره" متخلعة، وعلى الأرض ثياب خروج نسائية، وثياب خروج رجالية، وملابس داخلية، وثمَّة صورة ضخمة في برواز مذهب مقلوب على واجهته فوق بلاط الغرفة المترب، خمَّنت أنها ربما تكون صورة زفاف، وربما كانت صورة واحدة شقراء فاتحة عين ومغمضة عين وقطعة من قماش "الدانتيلا" الأبيض الرهيف تغطى خصر جسدها العاري، وربما لا تكون واحدة شقراء، ربما تكون سمراء، ربما سوداء، ليس مهمَّا، المهم أنه كان هناك قط! تَعَجَّبْ كما تحب، و تَسَاءل عن سبب وجوده فى غرفة النوم كما تحب، لكن كان هناك قط، ولولا أنه تحرك من مكانه ما كنت لاحظت وجوده، كان متربا أيضًا، فصار مثله مثل أي شئ في الغرفة، وبالتأكيد لم يكن غبيًا للدرجة التي لم يتوقَّع معها قدوم الزلزال مثل كل قطط العالم، فربما توقَّع، ولكن لم يسعفه الوقت للهرب، وربما كان الزلزال خبيثًا جدَّا فقرر مفاجأة كل قطط هذه المدينة المنكوبة، وعندما تحرَّك القط ورأيته رأيت أيضا أنه كان قاعدًا على مجلة اتَّضحت لي بعد قيامه، كانت مفتوحة، وثمَّة صورة ضخمة باتِّساع الصفحتين لرجل عارٍ يجلس على كرسي "فوتيل" وثير، رأسه ملقى إلى الخلف، بينما ذراعاه تمددتا أمامه لتقبضا على خصر امرأة عارية جالسة على حجره، كانت المرأة رأسها ملقى أيضًا للخلف، وشعرها يسيح ويلمس "الموكيت"، بينما انغرست أظافرها في كتفي الرجل، ولأنني هواء استطعت تقليب كل صفحات المجلة، كانت مملوءة بصور الجنس، إنَّه رجل قليل الأدب صاحب هذه الغرفة، إنه متزوِّج، ويمتلك امرأة يمكنه أن ينام معها في أي وقت ويريِح أعصابه! لا تقل إنه من الممكن أن يكون غير متزوِّج، وإلا فَسِّر لي سبب وجود كل هذه الملابس النسائية، ثم إن الصورة المقلوبة يمكن أن تكون صورة الزفاف.

أمَّا القط فإنه أخذ يتشمَّم مدخل الجُحر الذي صنعته الظروف بلهفة، وحاول كثيرًا أن ينفذ منه إلا أنه كان ضيقًا، وهذا جعلني أقول في سرِّى: "لماذا لا أدخل هذا الجُحر؟". وفعلا بسهولة تسرَّبت من المدخل، وفي الدَّاخل وجدت أغرب الأمور! وجدت علبة جبن! لم يكن وجود علبة جبن في حد ذاته هو أغرب الأمور، كما لم يكن أغرب الأمور هو كيفيَّة إدخال الفأر هذه العلبة الكبيرة إلى الجُحر، وذلك لسبب بسيط، هو أن الفأر لم يُدخِلها أصلاً، وإنما كان أغرب الأمور هو وجود علبة جبن من الصفيح في غرفة نوم!

تُرى من أي نوع هذا الإنسان الذي كان يعيش هنا؟! أو الإنسانة التي كانت تعيش هنا؟!

ولو أنَّك تقدر على فهم كلام الحيوانات كما أقدر لتعجَّبت مما حدث بين القط والفأر في هذه الغرفة.

لقد كان الفأر يعلم أن القط المحبوس، الذي هو بالتأكيد جائع، لن يتوانى عن افتراسه إن هو بدا له، لذلك فكَّر الخبيث في حيلة وقرَّر تنفيذها، قال للقط: "إنَّنى أمتلك في الجُحر علبة جبن ضخمة ومملوءة، ويمكنني أن آكلها وحدي وتبقى أنت جائعًا حتى يهلكك الجوع، فأخرج وأدخل إلى جُحري بعد ذلك بسهولة". وقال للقط: "ماذا لو تركتني أخرج من جُحري وأدخل إليه وقتما أحب مقابل قطعة جبن يوميًا؟". القط رأى العرض معقولاً، خاصة أنه سوف ينقذه من موت قريب، لكنَّه أحب ألا يبدو متلهفًا أمام اقتراح مجرد فأر، فقال له: "وماذا تستفيد أيها الفأر من إطعامى إذا كان الجبن بهذه الطريقة سينفد بسرعة؟". فأخبره الفأر بأنه يكره الحبسة، وأن جسده الصغير يمكنه الخروج إلى العالم من الثُّقب الدَّقيق الذي بجانب باب الغرفة، ويمكنه بذلك إحضار بعض الطعام فلا ينفد الجبن بسرعة، وهنا قال القط له: "ربما تخرج فلا تعود". فقال الفأر الخبيث ابن الفأر الخبيث: "أنا لن أحرم نفسي متعة إطعامك يا قط". وقال بصوت عالٍ: "لن أتكلم كثيرا، إمَّا توافق أو لا توافق". والقط الذي عصرته الظروف قال: "موافق". ورغم ذلك خرج الفأر يرتعش، إنها مغامرة، لكن القط نظر إلى الفأر الماشي بخوف نظرة رجاء فهمها الخبيث، وقل لي أنت ماذا تظن أن الفأر فعل بعدما تركه القط؟ هل تعتقد أنه هرب؟ لا، لم يهرب، وإنما في آخر الليل عاد، وكان القط قد تمطَّع على الأرض وبطنه مَمْصُوصة، فركله الفأر بقدمه في رأسه وقال: "قم خذ قطعتك من الجبن". وقام القط على قوائم أربعة مرتعشة، والفأر دخل جُحره الذي صنعته الظروف وغاب فيه طويلاً، والقط قوائمه لم تتحمله فركع أمام الجُحر وفتح فَمَهُ، والفأر ألقى في فَمِه قطعة جبن صغيرة وهو يرغى موضحًا له أن الجبن سينفد بسرعة لو أنه أعطاه قطعة أكبر من هذه، والقط لم يعترض، وإنما التهمها فورًا، وصار الفأر يفعل هذا كل يوم، أقصد أنه كان يتفنَّن في طُرُقِ الحَطِ من هيبة القط، مرة يَلْكِزه بقبضة يده في صدغه، ومرة يضربه بقدمه في بطنه، ومرة يبصق في وجهه، ولم يكن يعطيه جبنًا كل يوم، وإنما كان في الغالب يحضر له من العالم الخارجي قطعًا من العظام اليابسة، أو أي شئ يجده بين العمائر المتهدمة يمكن أن يأكله القط، والقط يعرف أنه لن يقدر على عمل شئ ضد الفأر المتمكن منه، بل إنه كان يتمنى ألا يقابله في الخارج ما يؤذيه! إن حياته صارت متعلقة بوجوده، والفأر وجد كيانه وعظمته في إطعام القط الحبيس بعد مَرْمَطَة كرامته، وصار يتمنى ألاَّ يموت القط.

وفي يوم نفد الجبن فبصق الفأر على وجه القط، وزعق فيه، وضربه بيديه ورجليه، وقال: "هكذا سأضطر كل يوم إلى حمل طعام لك من الخارج، هذا أمر مُضْنٍ". والقط من الضَّرب والبَهْدَلَة تلوَّى على الأرض، ولم يمؤ، وإنما عوى، كان هذا الذي يفعله الفأر بالقط أبشع ذل، لكن السماء الرحيمة نزلت إلى الأرض في هيئة رجال يرتدون البَذْلات العفاريتية الزرقاء والصفراء، والمبقَّعة بالزِّفت، ويركبون ديناصورات حديدية اسمها "بلدوزورات"، وكانت تعمل ضجيجًا، هذا الضجيج تسلل إلى أذني القط خافتًا فعرف أن هناك أمورًا تجرى فى الخارج، وخاف، ودعا الله الذي يستجيب لدعاء المكروبين ألا يحدث مكروه للفأر، و"البلدوزورات" أعملت أنيابها في ركام هذه العمارة، وأصوات الرجال كانت تعلوا في بعض الأحيان مطالبة من يقود "البلدوزورات" بالحذر خشية أن يكون هناك أحياء من أولاد آدم، والغريب أن السماء الرحيمة المتمثلة في هؤلاء الرجال لم تحاول دخول هذه الغرفة التي كان يبدو جليَّا أنها سليمة، لكن أنياب "البلدوزورات" عملت عملها وانتهى الأمر، لقد تخلخل الركام تحت الغرفة فزاد ميلها، والجُحر الذي صنعته الظروف اهتز بشدة فاتَّسع مدخله، وأصاب الرعب القط فاندفع إلى داخل الجُحر، وفجأة وجد نفسه داخل علبة الجبن الفارغة، كانت تحتوى على بقايا ملتصقة بصفيحها، فأخذ يلعقها بشراهة، ولم ينتبه لهذه الأنياب الناصعة التي اخترقت جدران الغرفة، ثم مَرَقَت إلى داخل الجُحر، وانغرست في صفيح علبة الجبن، وأنت لا تحتاج إلى أن أقول لك إنها انغرست أيضًا فى بطن القط، ونفذت منه الى جدار الغرفة الآخر.

لقد كانت الشمس في هذا الوقت قاعدة على كرسي الضحى، ونورها مبهر، لكنَّه لأول مرة كان يبدو كئيبًا وهو يقع على صندوق "البلدوزر" الممتلئ بالطوب، والدَّبْش، والخشب المكسَّر المدهون بالجَمَالَكَّة، وبقايا الكتب والمجلدات، وملابس خروج نسائية، وملابس خروج رجالية، وصفيحة جبن فارغة، يتدلى من فتحتها ذيل قط.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة