U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

حدَّثنا سمير الزَّهراني


 



..... وذُكر الخبر، كاملًا، في كتاب "اللبيب في ما كان في الدُّنيا من أعاجيب" للاَّزَرْوَقي، لكنِّي رأيت أن أبحث عنه في بعض الكتب الأخرى، المشهورة في الأمَّهات، و ذلك لداعيين اعتلجا في صدري، أولهما: لِمَا رأيت من خللٍ في سند الرِّواية عند صاحبنا؛ ففيها من المدلِّسين حاجب بن خليل. وفيها من قُدِح في قدرته على التَّحمل بسبب النِّسيان النَّاتج عن التَّقدم في العمر، وهو عمرو بن الحجازي. وفيها رافع بن سليم، وهو من الكذَّابين المشهورين. وثانيهما: لِمَا يكون قد ذُكر، في هذه الكتب، من زيادة في هذا الخبر، أو ما جرى عليه من نقصان.

ولقد وجدت أن الأمر يستحق ما يُبذل فيه من كد ونصب، فهذا الخبر، أو تلك الحادثة، هي عجيبة العجائب إن صحَّت، ولقد قرأت كتبًا بكاملها، من ذوات المجلَّدات المستعظمة، مثل "البارق في ذكر الغريب الفارق" لعلم زمانه، ودرَّة أوانه، المستحلبي، و"بدائع الزمان" للعلَّامة الكوثري، و"عجائب المصائب" لـبحر العلوم الدُّقلي، بحثًا ولو عن نذر يسير من هذا الخبر، لكن بعد الجهد، الجهيد، لا أعثر على بغيتي.

ورغم ما كان يصيبني من إحباط، إلا أنني كنت أجدِّد النَّشاط، فأقلِّب في الكتب بهمَّة، وأصل منها إلى القمَّة، فلا أصيب إلا الخيبة، فقررت أن أذكر الخبر الذي في "اللبيب"، مكتفيًا به، والعهدة على صاحبه، غفر الله لنا وله.

 

يقول الأزروقي: أخبرنا حسين بن غلمة قال: أخبرنا جاسر بن سالم البلوي، أخبرنا حاجب بن خليل عن الشدَّاد بن غنيمة أنَّه قال: قال عمرو بن الحجازي: حدثنا سمير الزَّهراني أن امرأة، حسناء، كانت في قاهرة مصر المحروسة، تقف كل صباح في شرفة بيتها، خلف شبابيك يُقال لها المشربيَّات، ترقب الرِّجال وهم يمرُّون في السِّكَّة أمام بيتها، فإذا أعجبتها هيئة رجل ما، وتأكَّدت أنَّه ليس من أهل الحي، ألقت أمامه زهرة من ورود تزرعها في أصص من فخَّار، تضعها على حواف الشُّرفة، فينظر الرَّجل إلى أعلى، فتطل عليه من طاقة تفتحها في المشربية، فيرى من حسنها ما يجعله ينسطل، ويري من عينها غمزًا يدفعه كي يدخل من باب البيت ليصعد إليها، فيجدها تنتظره، وتسحبه من يده إلى مخدعها، وتتخفَّف من ملابسها، حتَّى لكأنَّها من العري كيوم ولدتها أمُّها، وتأتي من الحركات، والتأوُّهات، ما يجعل صاحبنا مثل كتلة لهب، حتَّى إذا انفلت عياره، وأراد الهجوم عليها لينال منها وطره، اعتدلت واعتدل كلامها، وتكلَّمت بمنتهى الجد، وهي تشير إلى إناء ضخم، من خشب، يقال له برميل، تُعتَّق فيه الخمر، وتقول: "إذا كنت تريد اللعب في جناني، فأت لي بإسورتي من آنية الدِّنان".

وعندما يكشف الرَّجل غطاء البرميل، يكتشف ما هو مهول، الأسورة ساقطة في القعر، وحولها حيَّات تسعى، فلا يستطيع المسكين الإتيان بالإسورة، فيمضي وقد انكسر حاله أشد كسرة. ثم لا يستطيع أن يتحدَّث بين النَّاس بما حصل، حياء ممَّا قد يتهمونه به من جبن ووجل، فاختبأ أمر المرأة، ولم يعرف بحالها غير من دخلوا عليها ولهانين، وخرجوا مكسورين.

                                          

امرأة غاية في الجمال، ترتدي قميصًا، شفافًا، يفضح ثنيَّات الفتنة من جسدها الميَّاس، تجلس على سريرها العالى، المعمول من النُّحاس البندقي، ذي المرتبة والوسائد المحشوَّة بريش النَّعام، عيناها محشوَّتان بحزن، وتنظران نحو برميل كبير من خشب، مثل البراميل التي يُخلَّل فيها اللفت والجزر، رموش عينيها ترتعش، وفي ننِّي العين تتراقص ذبالة لهب ينطلق من مصباح فضِّي عتيق كأفعى تتلوَّي.

تهمس لنفسها بحرقة: لن أدفع روحي، وجسدي، إلَّا لرجل يدفع لي روحه، وجسده.

وتهرب منها تنهيدة ملتاعة.

                                          

البيوت تتلاصق، وترتمي على بعضها، حتَّى ليكاد الطريق بين صفَّيهما يتلاشى، وحتَّى تكاد ألَّا تجد أشعة الشَّمس مسلكًا إليه، البيوت مزوَّقة بالمشربيَّات، وبآيات قرآنيَّة منحوتة على أبوابها الكبيرة، وبأبيات من شِعر الحِكَم منحوتة على أفاريز شبابيكها الواسعة، والزُّقاق تفوح منه روائح ما يبيعه العطَّارون من مسك، وحبَّهان، وقرنفل، ومستكة، تمتزج بروائح الكبدة المقليَّة، والممبار الذي يُحمَّر في السَّمن، وقطع الكرشة التي تُطهى في الأواني النُّحاسية الكبيرة، هذه الأطعمة التي تجهِّزها المطاعم الرَّخيصة، وثمَّة روائح، أخرى، مقزِّزة لروث الحمير، والبغال، التي يحلو لها أن تفك زنقتها وهي تمر في الزُّقاق، وروائح دخان يتصاعد من النَّراجيل التي يشد أنفاسها معلمو الدَّكاكين والورش، وقد اختلطت أصوات الدَّق بالمطارق الثقيلة على المعادن المتوهِّجة بالنَّار، برغاء الجمال العابرة وقد حُمِّلت بقرب الماء الضِّخام، لتفرغها في مخازن مياه السُّبل.

ودخل المسمط رجل فتي، وجهه يحمل بهاء الجمال، وإن كان كتفه يحمل عصا غليظة، تعلَّقت بها صرَّة ضخمة، تعبَّأت بأنواع من القماش الحريمي، وكانت المرأة تراقبه، وقد جهَّزت زهرتها.

 

عندما خرج بائع الأقمشة من المسمط، خطا خطوات قليلة، ثم سقطت أمامه زهرة، فانحنى جسده ليمسكها بيده، بينما اشرأب قلبه ينظر إلى فوق، ووحده، من بين كل الرِّجال الذين نظروا إلى أعلى، الذي لم ير امرأة بارعة الحسن والجمال، وإنَّما رأى حبَّا يطل عليه من أرقِّ طاقة، في أحلى مشربية، فوضع الزهرة في سيَّالة جلبابه، ومضى في طريقه، ولم يدخل بيت المرأة.

 

لم يُكتب لأمر من أمور الدُّنيا تمام، ولابد من نقص ولو في الكمال، فقال الولد الذي في عصَّارة الزِّيوت لمعلمه:

ــ  يا مَعلمِّي.. بيَّاع القماش خد الورده..  ولم يدخل بيت الشَّرموطة!

فقال المعلِّم، بعد أن شدَّ نفسًا طويلًا من نارجيلته:

ــ  بيَّاع القماش رجل محترم.. والشَّرموطه في يوم من الأيام ستنفضح.. وسينفضح معها الحي.

نفخ الولد في الفحم الملتهب على حجر المعسَّل، وقال:

ــ  وقاعد ساكت ليه يا معلِّم الحتَّة؟!

دك المعلِّم الولد بقدمه:

ــ  ومين قال لك ساكتين؟!  أنا هاصيدها مع أول كلب يدخل خرابتها النَّهارده.

                                          

حقول الزَّرع معتمة ومنبسطة، وأشجار نخيل مشتَّتة تنبثق مثل أشباح، لكن عناقيد النُّور الكهربا تشكَّلت، في سماء وسعاية بحري الكفر، مثل شبكة من خيوط العنكبوت، والأضواء تخبط في جدران البيوت فتمصها الشُّقوق، وتمصها شبابيك ضيِّقة أطلَّت منها وجوه نساء وبنات، ينظرن بفرح نحو الصُّوان الواسع، الذي افترشه الرِّجال والصِّبية، جالسين يتمايلون مع عزف النَّاي، وأنين الرَّباب، وكان المغنِّي يزوِّق الكلام فتنسطل القلوب، وتصرخ الحناجر:

ــ  الله عليك يا سيدي..  قول كمان..  قول.

الطَّار اهتز، وارتعشت الصَّاجات، وصدح النَّاي، وطار دخان الشِّيش، وعبق الشَّاي الثَّقيل مثل عطر يميس على رقبة بنت بكر ما لها في الجمال مثيل، وصوت المغنِّي مثل مزمار حاد يزيل الصَّدأ من على الأرواح:

ــ  رَمَتِ البُنَيَّة..  الوردة التَّانية..  والقلب يا عيني..  مِ الشُّوق بيعاني .

 

أمسك بائع الأقمشة بالزَّهرة الثَّانية، ونظر إلى فوق، ورأى الحب، فوضع الوردة في سيَّالته، ومضى في طريقه، ولم يدخل بيت صاحبة الزُّهور.

وقال المعلم، وهو يشد دخان النَّارجيلة:

ــ  دا راجل محترم وابن ناس.. ما دخلش خرابة الشَّرموطة. 

وقالت المرأة، وقد جلست على أريكة "أرابيسك" تحت "المشربيَّة":

ــ  ما رأيت في الرِّجال مثل هذا الرَّجل.. ما انبهر بحسني ولا جمالي..  ولا هزَّه غمز عيوني!  كيف يا ناس أرسل له قلبي الملهوف؟!

 

يقول الأزروقي: أخبرنا حسين بن غلمة قال: أخبرنا جاسر بن سالم البلوي، أخبرنا حاجب بن خليل عن الشدَّاد بن غنيمة أنَّه قال: قال عمرو بن الحجازي: حدثنا سمير الزَّهراني، قال: فقالت، وقد رأته يقدم من أول الطريق: عساه يرق اليوم لحالي، ويتشوَّق لوصالي. فلمَّا صار تحت مشربيَّتها، راعها منه نحوله، وهزال خطوه وذبوله، لكنَّها ألقت زهرتها، فأخذها، مثل كل مرة، وقد رفع عينيه إليها، فرأت فيهما ما لم تره من قبل، عشقًا تأجَّج، وغرامًا تبلَّج، وقلبًا يثج هواها ثجَّا، فتمنَّت أن لو يدخل البيت إليها، لكنَّه مضى من غير أن يفعل .

 

كبابي النُّور الكهربا تكب النُّور الكهربا، والحفل يلألئ، والنِّساء ما عرفن يمسكن أعصابهن من روعة صدح النَّايات، فزغردن وهن يطللن من الطَّاقات و الشَّبابيك، والرجال جالسين على فرش الأرض مغمورين بوجد المغنِّي:

ــ  ما كانت البنت تعرف عشقها في الولد عمل ايه..  سَهَّرو الليالي يسأل فِ نفسه حالي انقلب كدا ليه..  العشق حربه ينشِّنها الحبيب عَ القلب..  وقع الولد يا ناس ولا حد سَمَّي عليه.

وصرخ السمِّيعة:

ــ  الله. الله. الله..  قول تاني..  تااااااني.

فيغمز المغنِّي بإحدى عينيه، ويهز رأسه وهو يبتسم، ثم يكسر صوته:

ــ  العشق حربه..

 

العاشقة تمشي في مخدعها بخطى واهنة، بطيئة، تتَّجه إلى قفص أسلاكه موشَّاة برقائق الذَّهب، وقد تدلَّى، من السَّقف العالي، بسلسلة زوَّقتها رقائق الفِّضة، به عصفور الكناريا الملوَّن يقف وقد أمال رأسه، وأسبل عينيه، ملتذَّا بمنقار عصفورة الكناريا، وهي تدغدغه في رأسه.

العاشقة تقترب أكثر من القفص، فترفع عصفورة "الكناريا" منقارها عن رأس العصفور وتصأصئ، تنظر نحو الوجه بديع الجمال، وعينا العاشقة تبرق في بحيرة دموعهما أنوار القناديل المزركشة بالألوان.

ـ  يا بختك يا عصفوره.

تصأصئ عصفورة الكناريا بينما تهز رأسها، تحدِّق بعينيها في وجه بنت آدم.

والعاشقة تشهق بأنفاس ملتاعة.

 

الطَّرق على رقائق النُّحاس يرن بغير ما يرن به الطَّرق على كُتل الحديد.

هذا طرق على النُّحاس، وشهيق الطَّارق، بالمطرقة الثَّقيلة، يمتزج بزفير النَّار المنفوخة بالكير الضَّخم، ورنين منغَّم لصاجات نحاسيَّة في يد بائع "العرق سوس"، وهو يمشي على مهل بينما يرفع صوتًا شادياً:

ــ  صلي على النَّبي.. العرق سوس المتلِّج.

وظهر بائع الأقمشة من غير أقمشة، بطيئ الخطو، زائغ النظرات، وبشرة وجهه اصفرَّت، لوَّنها الذي يلوِّن وجوه العشَّاق، سهر الليالي يلوِّن بفرشاة الوجد.

مشي حتَّى وقف تحت المشربيَّة، لكن الزَّهرة لم تسقط، فرفع عينيه إلى فوق، فلم ير الطَّاقة مفتوحة.

استدار، ودخل البيت.

                                         

الولد، وهو يضع الفحم، المسكونة فيه النَّار على معسل نارجيلة المعلِّم، قال:

ــ  شُفت يا معلِّمي.. بيَّاع القماش دخل بيت الشَّرموطه.

قال المعلِّم:

ــ  أنا قلت بيَّاع القماش رجل محترم.. وأنا لا أرجع في كلامي.

بحلق الولد في وجه المعلِّم، وبربش، وقال:

ــ  بس دا دخل بيت الشَّرموطه..  وانت يا معلم قلت.. 

ولم يكمل كلامه، لأن المعلِّم ركله بقدمه، وقال:

ــ  وانت مالك يا حشري! أنا المعلِّم "سمير" الزَّهراني، أقول الكلمه لا ارجع فيها.. أنا قلت بيَّاع القماش راجل محترم.. يبقى بيَّاع القماش راجل محترم.. حتَّى لو دخل بيت الشَّرموطه.

وقال المعلم "سمير" الزَّهراني، والدُّخان يتدفَّق من فمه وأنفه:

ــ  ثلاثة أيَّام ترمي له الورد ولا يدخل..  ولمَّا ما رمت ورد دخل!  عجيبة!

                                        

السَّهرة في ليالي الأرياف تحلو مع مغنِّي السِّير، وليس أحلى من ضرب الرَّباب لمَّا يمتزج بشدو حناجرهم، تقع المعاني، في قلوب السَّامعين، فتفعل فيها ما يفعله الخمر في قلوب الذَّائبين في العشق، وشيش النَّخيل المنسجم مع الحكاية، حتَّى الكلاب ربضت على حواف الصُّوان المكشوف، تهز رأسها.

غنَّى المغنِّي:

ــ  دخل الحبيب عش الحبيب ظنُّه هايفرح بيه...  وإنُّه بعد طول السَّفر رست المراكب بيه... ما كانش يعرف إن الزَّمن غدرات...  لم يبعت في يوم فرح إلَّا والوجع قبليه ....

                                        

صعد السُّلم الحجري، يتساند على درابزينه المعمول من الخشب والحديد، ها هو أمام الباب المغلق، نظر إلى ورود نُحتت حول إطار الباب، وتلوَّنت بألوان وهَّاجة، فتأكَّد له أنَّه حتمًا أمام باب الجنَّة، ولأن أبواب الجنَّة لا تُطرق، وإنما تُفتح أمام المريد للدُّخول فتحًا جميلًا، فقد انفتح الباب، فتحته حوريَّة من حور العين، وكان الفتى قد بلغ به الضَّعف، والهزال، أنَّه لم يستطع الشَّهيق الذي أراده لمَّا تجلَّى له الحسن قُراحًا، ودخل مبهوتًا، وسبقته إلى السَّرير تبكي، فاندفع نحوها بآخر قواه، وضمَّها إليه، وأحاطها بذراعيه، وشمَّ شعرها، وحك خدَّه بخدِّها، وقبَّل عينيها، ودحرج شفتيه على شفتيها، فتواثب الدَّم في عروق بائع الأقمشة، وكان هذا خطيرًا، ومميتًا.

 

يقول الأزروقي: أخبرنا حسين بن غلمة قال: أخبرنا جاسر بن سالم البلوي، أخبرنا حاجب بن خليل عن الشدَّاد بن غنيمة أنَّه قال: قال عمرو بن الحجازي: حدَّثنا سمير الزَّهراني، قال:  وأخذت تخلع ما عليها من ثياب، فبان منها الذي أمر بستره رب الأرباب، ولمَّا أراد التَّاجر لمسها، عادت بعد اللعب إلى جدِّها، وقالت: "إذا كنت تريد دخول جناني، فأتني بإسورتي من آنية الدِّنانِ". فتحرَّك المسكين إلى الآنية، و بين خطواته تتساقط بقع دم قانية، لمَّا رأتها المرأة فزعت، فهمَّت أن تسأله عن حاله، لكنَّها بعد الهم سكنت، ورفع التَّاجر غطاء البرميل، فبرقت في وجهه الإسورة المرصَّعة .

 

يا نغمة الرَّبابة الحزينة، ويا صوت المغنِّي الباكي:

ــ  مَدِّ الولد إيده فِ لمِّة التَّعابين..  طلعت ماسكه الغويشه والسِّم مِ التَّعابين.

نسيم ليالي الصَّيف في الأرياف، ونجوم السَّماء تبرق، والسَّهرة ممتدَّة، والعاشق يموت، والنِّساء دموعهن سالت من الشَّبابيك، فأغرقت الأرض التي يجلس عليها أهل السَّامر، وارتفعت الدُّموع عن الأرض حتَّى صعدت إلى المنصَّة التي يقف عليها المغنِّي.

 

العاشق يسحب يده من البرميل، فيها الإسورة، بينما تعلَّقت بها إحدى الأفاعي، وقد غرست نابيها في معصمه.

صوت صرخة المرأة يمتزج بصأصأة فزعة أطلقتها عصفورة الكناريا.

المرأة تهز يد العاشق بقوَّة، فتسقط الأفعى في البرميل، ثم تسنده على كتفها حتَّى تمدِّده على الفراش، عيناه غائمتان، شفتاه ترتعشان، ثم تنفرجان بصعوبة، بالغة، عن بسمة واسعة.

يمد يده، بالإسورة، إلى حبيبته، وحبيبته تنظر إلى دماء ارتشحت على صدره.

 

خلعت عنه الجلباب، فتبدَّت الدِّماء وقد أغرقت الصِّديري.

خلعت عنه الصِّديري، فتبدَّت الدِّماء وهي تنشع من فانلته، القطنيَّة، ذات الكمَّين الطَّويلين، وثمَّة بروز، غير عادي، يظهر من تحت الفانلة، ناحية القلب.

خلعت عنه الفانلة، فهالها ما رأت، وانكبَّت على صدره تبكي.

زهورها، الثَّلاثة، مرشوقة في لحم صدره، مخترقة مابين الضُّلوع، لتنغرس في القلب.

 

ركب المغنِّي قاربًا، وضرب بمجدافيه، فانساب على بحر الدُّموع، والموجات الصَّغيرة تكسِّر وجه القمر، وناس الرِّيف على أسطح البيوت، يقذفون بالطُّوب ناحية القارب، وكانوا يزعقون:

ــ  يا مغنِّي يا ابن الكلب.. أغرقتنا وترحل!

 

قال الولد للمعلِّم سمير الزَّهراني:

ــ  يا معلِّم..  الرَّاجل دخل بيت الشَّرموطه من أسبوع ولم يخرج.

ــ  يمكن يكون خرج في وقت متأخِّر من إحدى الليالي السَّبع! مستحيل يقعد هناك كل هذا الوقت..  نظرتي فيه إنُّه راجل محترم.

فقال الولد، وهو ينفخ في النَّار التي تأكل المعسَّل:

ــ  لكن الشَّرموطه هي الأخرى لم تعد تظهر في "المشربية" يا معلِّم..  أقطع دراعي إن ما كان بيَّاع القماش جوَّه.

فقال المعلم:

ــ  يا ولد.. تشم الرَّائحة الحلوه التي أشمُّها!  أنا شامم رائحة ورد!

                                       

يقول الأزروقي: أخبرنا حسين بن غلمة قال: أخبرنا جاسر بن سالم البلوي، أخبرنا حاجب بن خليل عن الشَّداد بن غنيمة أنَّه قال: قال عمرو بن الحجازي: حدَّثنا سمير الزَّهراني، قال: وطرقنا باب منزلها، فلمَّا لم ينفتح كسرناه كسرًا، وكان الذي رأيناه عصي على الفهم، لكنَّه يزرع في القلوب الفكر والهم، فلقد كانت المرأة محشورة في برميل ممتلئ بالأفاعي، وكان تاجر الأقمشة معلقا ميتا في مسمار غليظ كاليراع، على الجدار المتَّسع الذي في مواجهة المشربيَّة، وكان عريانًا تمامًا، وقد انغرست في قلبه ثلاث وردات من الورد الأحمر البلدي، وكان كل ما نراه عجيبًا في بابه، غريبًا في نوعه، لكن ما كان أعجب وأغرب، هو رائحة الورد التي كانت تتدفَّق، حتَّى أن كل سكان الحي شمُّوها، فمشوا زمنا مسطولين ......

                                       

ولم يكن ممكنًا ألَّا يضم كتابي هذه الحكاية العجيبة، والرِّواية الغريبة، وإن كنت أشك في صحَّتها، لكنَّها تستحق الذِّكر من فرط روعتها.  ولقد ذُكرت لي حكاية أخرى لا تقل غرابة، جرت مع سقَّا لا يقل صبابة، قال نعمان بن جميل: حدثَّنا علي بن الصياد: أخبرنا مسعود الناسخ أنَّ عبد الرحمن بن القللي قال: حدَّثنا سمير الزَّهراني فقال: كان في زقاقنا سقَّا، بحكم شغلانته يدخل كل البيوت، وكان ............                      

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة