U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "ميرامار"

 

 




"ميرامار" اسم بنسيون في مدينة "الإسكَندريَّة"، يشغل الطَّابق الثَّاني من عمارة قديمة تَطلّ على البحر، تتباهى مالكته، اليُونانيَّة العجوز "ماريانا"، بأن طالما اتَّخذه الباشوات وكبار مُوظَّفو الدَّولة نزلًا لهم في الأَيَّام الخوالي. على أنَّ الأَيَّام الخوالي، فيما تتَذكَّرها "ماريانا" بحنين وشوق، لم تكن بالأَيَّام البعيدة، إنَّها قبل 10 أعوام فقط من حركة "الضُّبَّاط الأحرار" في "يوليو"، أو يزيد قليلًا؛ كُلّ معطيات رواية "ميرامار"، للرِّوائيّ الجليل الأستاذ "نجيب محفوظ"، المعنونة باسم ذلك البنسيون، تُؤكِّد وقوعها في ذلك الزَّمن. وشخوص الرِّواية سبعة؛ شَخصيَّتان منها موحلتان بالتَّوابع المباشرة لثورة 23 "يوليو" 1952. أَوَّلهما: "ماريانا"؛ وقد فقدت أملاكها، وكانت فقدت زوجها، الضَّابط الإنجليزِيّ، في أحداث ثورة 1919. والثَّانية: "طلبة مرزوق"؛ وكيل وزارة الأوقاف سابق، وكبير أعيان، سابق أيضًا، بعد أن نزعت منه الثَّورة مِلكيَّة ثلاثة آلاف فَدَّان من الأطيان.

أَمَّا "حسني عَلَّام" فهو شَابّ من عائلة لم تطلها إجراءات المصادرة، لأنَّها بالكاد تمتلك الحَدّ الأدنى الَّذي سمحت به قرارات الثَّورة من الأطيان، 100 فَدَّان، مغرم باللهو والمجون؛ السَّهر في البارات والكباريهات، مضاجعة الخليعات والمومسات، وهكذا، غير أنَّه يبحث عن مشروع لاستثمار أمواله!

وإذا كانت الرواية تستعرض المضرورين بالثورة فإنها حين استعرضت المستفيدين بها أطلعتنا على   شخص "سرحان البحيري"، المُوظَّف في القطاع العَامّ، وقد وصل لأعلى المناصب الإداريَّة، ليستَغلّ منصبه في تسويق بضاعة مِلك الدَّولة لحسابه وشركائه من المختلسين، وعندما يُكتَشف أمره ينتحر بقطع شرايين يده.

وقد وضع "نجيب محفوظ" محورًا لأحداث روايته، ثابتًا، لا يُحرِّك، غير أنَّه يضبط الحركة، تَمثَّل في شَخصيَّة الفتاة القَرويَّة "زهرة"، الهاربة من زيجة لا أخلَاقيَّة، حيث يُصرّ جَدُّها على تزويجها من رجل يضاهي عمرُه عمرَ جَدِّها! فتلجأ إلى "ماريانا"، وقد كانت الأخيرة على معرفة مسبقة  بوالدها المزارع، قبل وفاته، الَّذي لم يكن يفتر عن تزويدها بمنتجات الفَلَّاحين الطَّازجة، من زبد، وجبن، وطيور، وما على شاكلته؛ تسمح "ماريانا" لـ"زهرة" بالعمل في البنسيون، ولأنَّ الشَّابَّة القَرويَّة جميلة حَدّ الفتنة، ذَكيَّة حَدّ الطُّموح، فإنَّها تصير حقلًا خصبًا لإنبات قصص غرام الشُّبّان البنسيون الثَّلاثة: "حسني عَلَّام"، و"سرحان البُحيريّ"، و"منصور باهي".

من "منصور باهي"؟

هو شَابٌّ ثَوريٌّ، كان عضو تنظيم سِرِّي معارض للنِّظام الثَّوريّ الجديد، قبل أن يجبره أخوه، الضَّابط في البوليس، على ترك التَّنظيم، وإلحاقه بالعمل في إذاعة "الإسكَندريَّة". غير أنَّ "منصور" كان عاشقًا لزوجة قائد التَّنظيم المُعتقَل. على هذا، ورغم قطعه لعلاقته بالتَّنظيم فإنَّه لم يقطع عشقه للزَّوجة، فقضى الوقت يتَحيَّن الفرص كي يستميلها إليه حتَّى مالت، وكانت بدورها تُحبُّه من قبل! إِلَّا أنَّ زواجها من قائد التَّنظيم، النَّزيه، وقف حجر عثرة في طريق تصعيد مشاعرها تجاه "منصور"، لكن الزَّوج المعتقل يمنح زوجته الحَقَّ في اختيار مستقبلها، فتسارع إلى "منصور"، الَّذي يكون قد تَعبَّأ تمامًا بإحساس الخيانة؛ حيث صار مَحلّ شَكّ أفراد التَّنظيم بعد أن قُبِض عليهم جميعًا دونه، هذا غير انهماكه في علاقة حُبٍّ مُحرَّمة مع زوجة قائده، فيَتحوَّل بغتة إلى رفض الزَّواج منها!

وجاء "عامر وجدي" ليكون الشَّخصيَّة الرَّئيسة؛ استُهلِّت الرِّواية به، وخُتِمت به؛ عجوز في الثَّمانين من عمره. له ماض صَحافيّ لامع، وألعاب عديدة مع سِياسيِّي عصر ما قبل الثَّورة.

 

فكرة الرِّواية، وببساطة شديدة: بنسيون يجتمع فيه بعض الزبائن لأسباب تَخصّهم، تلجأ إليه قَرويَّة هاربة، شديدة الجمال، وتعمل خادمة فيه، لتتصاعد الأحداث وتتشابك المصائر، فيُحبُّها "سرحان البحيري" علنًا، وتبادله الحُبَّ، فيما يُحبُّها "منصور باهي"، لاحقًا، سِرًّا، بينما يتَمنَّى "حسني عَلَّام" لو يمتلكها لممارسة الجنس. "طلبة مرزوق" و"عامر وجدي" هرمان يتابعان الأحداث. "ماريانا" عصفورة تنقل الأخبار من هنا لهناك، ومن هناك لهنا، وتتَدخَّل بوازع من مصلحتها الخَاصَّة، حتَّى لو اضطُرَّت لممارسة القوادة.

 

بُنِيت "ميرامار" على خمسة فصول، عُنوِن كُلّ فصل منها باسم الشَّخصيَّة الَّتي تعرض للأحداث بضمير المُتكلِّم، ليأتي ترتيب الفصول الخمسة هكذا: "عامر وجدي". "حسني عَلَّام". "منصور باهي". "سرحان البحيري". "عامر وجدي".

فإذا كان لدينا سبع شَخصيَّات فاعلة، السَّابق عرضها، لا يَقلّ إحداها خطرًا عن الأخرى، لنا أن نسأل: أين الفصل الخَاصّ بـ"ماريانا"؟ وأين الفصل الخَاصّ بـ"زهرة"؟ وأين الفصل الخَاصّ بـ"طلبة مرزوق"؟

وإذا كان بالإمكان تبرير عدم كتابة فصلين خَاصَّين بـ"ماريانا" و"زهرة"، باعتبار "محفوظ" الأولى ثابتًا مَكانيًّا، تدور الأحداث في البنسيون خَاصَّتها. والثَّانية ثابتًا شُعوريًّا، تدور الأحداث اصطراعًا على قلبها، ففَضَّل تركهما ثابتين رحبَين، غير مُقيَّدَين بأطر الفصول. فكيف يمكن تبرير استبعاد "طلبة مرزوق" من البوح بفصل يَخصّه؟ في الوقت الَّذي لا يمكن تَفهُّم تخصيص فصل لـ"سرحان البحيري"، مستخدمًا ضمير المُتكلِّم، فيما كان قد انتحر، وانتهى أمره!

 

وأتَصوَّر، بصفتي كاتب روايات، أنَّ أكذب الضَّمائر الرِّوائيَّة، في الرِّواية العَربيَّة تحديدًا، هو ضمير المُتكلِّم، باستخدامه ينسحق السَّرد العَربيّ بين مطرقة قِلَّة القيمة، وسنديان التَّسطيح. فضمير المُتكلِّم يضع القارئ بمواجهة الشَّخصية الرِّوائيَّة مواجهة مباشرة، فيما يُفترض بالقارئ، أساسًا، أنَّه شَخصيَّة مضافة تتَلصَّص على شَخصيَّات الرِّواية، تُفضِّل متابعتها عن بعد، دون لفت انتباهها إليه، لكن أما والشَّخصيَّة الرِّوائيَّة قد واجهت القارئ، وقبضت على تلابيبه لتمارس معه شهوة الحكي، فليس بوسع الأخير غير الاستماع إليها، فيما يتساءل دخيلته: "وما لي بهرائك أَيَّتها الشَّخصيَّة الرِّوائيَّة؟ ماذا تريدين مِنِّي؟ أتمارسين الفضفضة على حسابي؟". ويزيد من حنق القارئ استماعه لشَخصيَّات رِوائيَّة، عَربيَّة، لا تملك شجاعة قول كُلّ الحقيقة، لا تتَمتَّع بجرأة التَّعرِّي، لأنَّ كاتبها رِوائيّ عَربيُّ مُقيَّد بأغلال بيئته، الدِّيكتاتوريَّة حُكمًا وتقاليدًا، ما يجعل ضمير المُتكلِّم أكذب الضَّمائر في سردنا. وهكذا، إذا تَعذَّر الصِّدق توافر التَّسطيح، وقَلَّت القيمة، وهو نفسه ما جعل الحوار، في رواية "ميرامار"، مَسرحيًّا صاخبًا.

 

فإذا ما استبعدتَ كلام النُّقَّاد، وهو إطراء ومديح للحالة المَحفوظيَّة أكثر منه نقدًا مَوضوعيًّا، ستجد أنَّ "ميرامار" ليست بالرِّواية ذات الأعماق الغائرة؛ إذ لن ينتهي القارئ منها مأزومًا بعقل بدأ العمل الفِكريّ الطَّاحن، ولا مذهولًا بقلب أُخِذ بروعة الحكايات أو جِدَّة حبكتها، بل كُلّ شيء فيها عَاديّ جِدًّا، وإن بمقاييس الزَّمن المكتوبة فيه، بل حتَّى من أضفى عليها ثوب "التَّرميز" القشيب قد اصطنع هذا الإضفاء اصطناعًا، عندما أشار إلى أنَّ "زهرة" هي "مصر"! فأين "زهرة" ميرامار، الأُميَّة، المخدوعة، من "مصر" الَّتي عَلَّمت الدُّنيا مبادئ الكتابة، وأصول الهندسة، وعلوم الطِّب، ومدارات الفلك؛ المستيقظة النَّابهة مهما أحلكت عصورها، حتَّى أنَّها تَحتلّ قلب مُحتلِّها، فإذا انسَلَّ مطرودًا منها انسَلَّ مِصريّ الهوى، لكنَّها زيافة النُّقَّاد حين لا يكون بوسعهم غير إلقاء الدِّلاء في آبار أمحلت.

 

وقد عثرت على مقالة بديعة، طويلة، كتبها أحد صحَافيِّي جريدة "أخبار الأدب" المِصريَّة، اسمه "مُحمَّد شعير"، تناول فيها المخطوط المَبدئيّ لرواية "ميرامار"، الرِّواية في شكلها الأَوَّل بعد كتابتها مباشرة، وقبل إجراء التَّعديلات السَّابقة على النشر، بالدَّرس والتَّمحيص، فأشار إلى أنَّ بعض روايات "نجيب محفوظ"، قبل "ميرامار"، أغضبت كبارًا من ضُبَّاط الثَّورة وقد تَرأَّسوا السُّلطات، عندما استشعروا فيها روحًا مناهضًا لفسادهم الوليد، واستبدادهم البازغ، فرفعوا غضبهم للرَّئيس "جمال عبدالناصر"، الَّذي أشار عليه بعض المخلصين بعدم التَّعرُّض لـ"نجيب محفوظ"، ما يُظهِر النِّظام بمظهر دِيموقراطيّ يحمي الحُريَّات، وقد كان، لم يَتأذَّى "محفوظ"، لكن الرّصاصة الَّتي لا تصيب تُسبِّب الإزعاج، فيُؤكِّد "شعير" على أنَّ ما حدث خلق في ذات "محفوظ" الرِّوائية رقيبًا دَاخليًّا صارمًا، مُستدلًّا ومسترشدًا بالمخطوط المَبدئيّ لرواية "ميرامار"، وقد حوى جملًا ومقاطع شديدة اللهجة ضِدّ ما آلت إليه ثورة "يوليو" حُذِفت من الطَّبعة المنشورة!

فإذا ما كان أدب الأستاذ "نجيب محفوظ" يستلهم جَماليَّاته، بالأساس، من كونه أدبًا إصلَاحيًّا مقاومًا، إذا فقد مزيته هذه فقد كثيرًا من جماله، فهل هذا يُفسِّر ارتباك رواية "ميرامار"، وسقوطها بين مطرقة قِلَّة القيمة وسنديان التَّسطيح؟

وهل كان الرَّقيب الدَّاخلي، الَّذي وظَّفه "محفوظ" مخافة غضب ضُبَّاط السُّلطة، قاسيًا درجة إجباره على إخراس "طلبة مرزوق"، أكثر شَخصيَّات "ميرامار" احتدادًا على الثَّورة، وحرمانه من حَقِّه في فصل كامل، يمارس فيه بوحه الخَاصّ؟

 

إذا كانت قُوَّة السُّلطة تصنع استبدادًا فإنَّ خوف الرِّوائيِّين يفعل أيضًا!

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ        

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة