U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "الحي الإنجليزي" لحماد عليوة

 


تبدأ الأحداث، في رواية "الحَيّ الإنجِليزيّ"، بإنشاء رابطة للمغتربين الأجانب، سنة 1980. تلك "الرَّابطة" التي ستكون منبعًا رَويًّا لشبكة كثيفة، محكمة التَّرابط، من الشَّخصيَّات وعلاقاتها المُتنوِّعة. تتمازج. تتشابك. تتصارع. تتوافق. بقدرة سَرديَّة خَلَّاقة لرِوائيّ، مِصريّ، اسمه "حَمَّاد عليوة".

 هل تعرفونه!؟

حتَّى أنا لا أعرف عنه شيئًا!

مع ذلك أزعم أنَّه قَدَّم لنا، بـ"الحَيّ الإنجِليزيّ"، معزوفة رِوائيَّة مِصريَّة يجب على محافل الأدب العَربيّ العناية بها، وتقديمها دليلًا واضحًا على أنَّ إبداعنا لم يزل فَوَّارًا، ولن ينضب.

 السَّيِّدة الأَمريكيَّة، "سِريا هوارد مورس"، تنشئ في حَيّ "المعادي"، وكان يُطلق عليه الحَيّ الإنجِليزيّ، رابطة للمغتربين الأجانب، ذات أهداف إنسَانيَّة سامية؛ كتقديم معونات مَاديَّة لفقراء المِصريِّين دون تمييز ديني. بالإضافة إلى توعيتهم ثَقافيًّا عبر نشر سلسلة من المكتبات للحَضّ على القراءة ومعرفة الحقائق. تستقبل "الرّابطة" أعضاءها الأجانب. يأكلون في مطعمها. يشربون  في بارها. ويُقدِّمون المعونات. هناك مطبخ. أي هناك خدم. ما يعني وجود أناس "بسطاء" يشاركون الأجانب "الأرستقراط" نفس المكان. هكذا بين قطبي التَّضاد تنبثق شرارة الحكايات.

فإذا ما كان السَّارد حَقيقيًّا سيُوغل في عالمها بقُوَّة وجرأة، لينتهي حتمًا إلى كتابة رواية مختلفة، ما ينعكس على القارئ إيقاظًا وإدهاشًا، ومن ثَمَّ إمتاعًا.

 أُقيمت الرِّواية على أربعة أجزاء طويلة.

 "الرابطة" هي العمود الفِقريّ لجزئها الأَوَّل؛ ذِكر مُؤسِّسيها وأحوالهم. وكيف كُوِّنت. مع تقديم صورة بَانوراميَّة لنشأة الحَيّ. ثُمَّ المصاعب الجَمَّة التي تواجه العمل الخَيريّ، التَّوعويّ بالذَّات! في "مصر". وكيف أنَّ مجهودات "سِريا" مع أهل  الأحياء الفقيرة، "البساتين" و"إسطبل عنتر" أمكن إفشالها، من قِبَل أمن الدَّولة المِصريّ، التَّابع لنظام حريص على بقاء الفقر والجهل مستشريَين في شعبه، باستخدام الشَّيخ الأُصوليّ المُتشدِّد "حَسَّان النِّخيلي"، الذي ما إن ألقى خطبة عصماء، في يوم الجمعة، مُؤكِّدًا على أنَّ مساعدات "الرَّابطة" ليست غير محاولة ماكرة لتنصير أطفال ونساء المسلمين، حتَّى هاجت جموع الغاضبين، المنتفعين بالأساس من مساعدات "سِريا"! وأوشكوا على قتلها داخل سَيَّارتها. هذا غير المصاعب التي يواجهها السَّيِّد "إبراهيم مسعود"، مدير "مركز التَّنوير للأبحاث الإنمَائيَّة"، أحد أعضاء "الرَّابطة" كونه يحمل جِنسيَّة أَمريكيَّة، حيث تعمل الأجهزة الأَمنيَّة بنشاط ضد مركزه السَّاعي إلى نشر الدِّيموقراطيَّة في "مصر"، والتَّهمة الرَّئيسة المُوجَّهة له دومًا هي: تَلقِّي أموال من الخارج.

 حكاية الشَّابّ الخَليجيّ "نَوَّاف الرَّشيديّ" هي عصب القسم الثَّاني من الرِّواية؛ حيث التَّجوال في عالم "القوادة" القذر، والشُّذوذ الجِنسيّ. فـ"نَوَّاف" هذا، بعد تَعرُّضه لمحاولة تحرش جِنسيّ في صغره من شيخ عَربيّ كبير، يهجر إتيان المرأة في قُبُلها، ويعشق إتيانها في دبرها! هكذا تفسد علاقته بزوجته الخَليجيَّة. وهكذا يعيث فسادًا في عالم القوادة المِصريَ الفاسد بالأساس. حيث يُسهِّل له إِفريقيٌّ مُتمصِّر، يُدعى "عبدون النِّو"، تدير زوجته شبكة دعارة، الحصول على مومسات يقبلن الممارسة من الخلف. لكن رغبة "نَوَّاف" لم تكن قاصرة على مُجرَّد ممارسة هذا الشُّذوذ، بل انتزاعه انتزاعًا؛ لهذا فهو يبحث دائمًا عن المرأة التي لا تمنحه هذا الشَّيء بسهولة. وقد تَوفَّرت له امرأتان من تلك النَّوعيَّة الصَّعبة: "ليلي فتمير"، و"داليا مُحمَّد عبدالمقصود". الأولى لم تُمكِّنه من مؤخرتها، حتَّى أنَّها، إزاء إصراره، تلقي بنفسها من الطَّابق الرَّابع فتلقى مصرعها. والثَّانية تقاتله أكثر من مَرَّة، وتموت في محاولته الأخيرة دون أن يَتمكَّن منها. ليسطع، في هذا الجزء من الرِّواية، الدَّور الرَّديء للنِّفط الخَليجيّ في إفساد المجتمع المِصريّ.

 يقوم الجزء الثَّالث من "الحَيّ الإنجِليزيّ"على حكاية "سميرة"؛ امرأة مِصريَّة حصلت على تعليم عال، وآمنت باليسار، إِلَّا أنَّ زوجها "مُحمَّد عبدالقادر" يموت تاركًا لها ولدين وبنتين: "أشرف" و"سعيد" و"داليا" و"مديحة". تحتضنهم بخوف، وتعمل في خدمة الأجانب، وتربي أبناءها على أن لا أحد في العالم سيساعدهم لو لم يساعدوا أنفسهم. يتشربون بهذه النَّظريَّة حتَّى الثُّمالة،  ما تكون نتيجته هوس مَاديّ يجتاحهم جميعًا، ليلقي بهم إلى مصارع سوء مختلفة.

في هذا الجزء، وبتجنيد "سعيد"، نَطَّلع على الجانب البشع من وجه العَسكريَّة المِصريَّة، لنرى كيف أنَّ كُلَّ بيت، من بيوت "السَّادة" الضُّبَّاط الكبار، يَضمّ أكثر من مُجنَّد، يعملون خدمًا، يطبخون لهم، ويُنظِّفون بيوتهم، ويقودون سَيَّاراتهم الخَاصَّة. كما نَطَّلع على الدَّور البغيض للرِّشوة الدِّينيَّة، واستغلال المال في النَّصب العَقائديّ من أجل حصول "السَّادة" لمشايخ الكبار على المزيد والمزيد من الثَّراء. هذا غير المرور على ما يُسمَّى باضطهاد المَسيحيِّين.

 في الجزء الرَّابع لقطة واسعة، مُتعدِّدة المشاهد، لنهايات الحكايات. وإغلاق نَهائيّ للرِّواية بمشهد غامض، يقبل أكثر من تأويل، لكن جميع التَّأويلات لن تكون غير كشَّافات لمستقبل ليس على ما يرام.

 هناك الكثير من الشَّخصيَّات الأخرى، ومَرويَّاتها، وارتباطاتها بالشَّخصيَّات الرَّئيسة، رغم ثَانويَّتها إِلَّا أنَّها فاعلة، لا يمكن للسَّارد الحَقيقيّ التَّغافل عن رصدها، وتدوين تفاعلاتها، حتَّى وإن أَدَّى هذا إلى كتابة رواية تتَعدَّي صفحاتها الـ460 صفحة، من القطع المُتوسِّط، بعدد كلمات لن يَقلّ بحال عن الـ100 ألف كلمة.

 إنَّها ثلاث حكايات أصيلة، لم تترابط بجذورها، بل بأطرافها، وهو الأمر المعيب لو أنَّ المكان، "الحَيّ الإنجِليزيّ"، لم يكن مهيمنًا تمام الهيمنة، لا يكتفي بلعب دور خَلفيَّة تدور الأحداث على سطحها, بل فرض وجوده كشَخصيَّة رئيسة، انعتقت من حبسها ككائن جماد إلى كائن حَيّ يتَمتَّع بحُريَّة التَّنفُّس، والحركة، والتَّعبير الإنسَانيّ!

وإن لفت هذا انتباهنا لشيء فليس لغير قدرة "حَمَّاد عليوة" البارعة.

 مع بساطة اللغة إِلَّا أنَّها تَمتَعت بذلك الحَسّ الأَدبيّ، والتَّرنيمة الإبدَاعيَّة الشَّفيفة، التي لو خلت منهما لتَحوَّلت إلى لغة إخبَاريَّة تَوصيليَّة مُسطَّحة. هكذا مشي السَّارد بمهارة على خيط لُغويٍّ رفيع، دونما سقوط في جُبِّ اللغة الهَشَّة أو فَخّ اللغة المُتقعِّرة. ما نتج عنه، حتمًا مَقضيًّا، أسلوب رقيق، هامس. يأسر قارئه إلى النِّهاية.

 هل هناك أخطاء؟

 جل من لا يخطئ.

 ثُمَّ كيف لقارئ ممتاز أَلَّا يتجاوز عن أخطاء عمل إبدَاعيّ حَقيقيّ، أصيل غير مصطنع، صادق لا ادِّعائيّ. وقد قال حكماء أجدادنا مثلًا شَعبيًّا مزهرًا: لأجل الورد ينسقي العُلِّيق.

  

 

   

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة