U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

ذبح الضَّحيَّة في نور شمسنا الذَّهب


 

ذبح الضَّحيَّة في نور شمسنا الذَّهب

 

وكانت شمسنا طالعة من وراء زروعنا تتسلق النخيل عندما كنا ندخل المسجد.

شمسنا شمس العيد، وشمس العيد غير كل الشموس، إنها بيضاء بيضاء وحوافها محلاة بالذهب.

وفي المسجد جلسنا على حصر الحلفاء، وقعدنا نهلل ونكبر"الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلَّا الله"، أصواتنا عالية، وشاربة من الحزن حتى ارتوت، ونور الصباح توهج على "جلاليبنا" فصارت ناصعة، والإمام قال "قد قامت الصلاة"، وقلنا وراءه "الله أكبر"، والنخيل اهتزت. "الله اكبر"، فاهتزت شمسنا المختبئة بين شواشيها. "الله أكبر"، وتنزاح همومنا. "الله أكبر"، وصدورنا تنبسط. "الله اكبر "، وتشف. " الله اكبر"، وفرح خفي يدخلنا. "الله أكبر"، ونخرج من المسجد ونقول: " كل سنه وأنت طيب". " كل سنه وأنت طيب". " كل سنه ونحن طيبون".

 

وفي ساحة "الرَّهبه" تحت شجرة الكافور الخضراء الشاهقة سنَّ " العوضى" الجزَّار سكاكينه، وعندما لمع بريق شمسنا على الشَّفرات المسنونة لف ذراعه حول بطن الضحية وألقاها على الأرض فأثار الغبار، ويده الشمال قبضت على ذقنها وجذبتها إلى الخلف فَبَدَت الرقبة طويلة وجلدها مشدود مثل غشاء طبلة!

 

قال "العوضى": "بسم الله.. الله أكبر". وحدّ سكينه جرى على الجلد المشدود فشرخه، والدم تفجَّر من الرقبة فى ثلاثة خيوط دقيقة ودفَّاقة، لقد فَرْفَط الجسد طالبا الفكاك، لكن ثقل "العوضى" فوق الجسد أهمده، وبسكينه أكمل جزّ الرقبة ففصل الرأس وألقاه على الأرض فسقط بوجه منكفئ في التراب.

 

كنا قد تحلَّقنا حول "العوضى" بجلابيبنا البيضاء نرفع أطرافها خشية أن يلوِّثها الدم المتناثر.

 

"العوضي" قطع قطعًا في أسفل رِجْل الضَّحية، وأدخل فيه سنَّ مبرده ثم أخرجه، ووضع فمه على القطع وأخذ ينفخ.

 

نفخ "العوضى" حتَّى تكوَّر الجسد مثل كرة، وأمسك بعصا جَرِيد وضرب الجسد المنفوخ وهو يقول: "صلُّوا على النبي".

 

وكان أخونا "صالح" يَنْكُت رأس الضَّحية المنكفئ بطرف عصاه عندما اعتدل الرأس فجأة وبان لنا وجهه، وصُعِقنا، كأن الشمس سقطت من فوق شواشى النخيل وتكسَّرت، إذ رأينا أن الرأس المفصول كان رأس أخينا "حسن"! ونظرنا إلى الجسد المنفوخ نظرة مستطلعة بيَّنت لنا أنه جسد يشبه أجسادنا، وأنه يخلو من صوف الخرفان، وأمسكنا في عِبِّ "العوضى" ونحن نزعق في وجهه: "يا أعمى تدبح حسن!". "العوضى" بُهِت، وجاءته حالة ذهول، وشفتاه تمتمتا: "لا حول ولا قوة إلَّا بالله". ثم أخذ يخلص عِبَّه من أيادينا وهو يقول: "والله ما أخدت بالى". ولَكَزَ عَيِّلاً في جنبه وقال: "خُشْ هات الخروف من المخزن".

 

ورفعنا جسد "حسن" المنفوخ، وأخونا "مندور" حمل الرأس والدم يَقْطُر منه، وسِرنا في الشارع ناصبين مناحة، ودموعنا تهطل، وعلى ضفاف الترعة "المُرَّه" وضعناه لنغسِّله، وناس كثيرون أعطونا أواني وجرادل لِنَصُب بها المياه على الذَّبيح وننظفه من دمه تمهيدا لدفنه، ونزل في الترعة أكثر من عشرة أنفار ليناولونا الماء، وكنا أكثر من عشرين نفراً نَدْعَك في جسده والدم لا يزول، والرأس يَقْطُر دماً أغزر، وماء الغسيل ممزوجاً بالدم والطين يتدحرج عائدًا إلى الترعة مثل سيول.

 

مضى وقت، ورأينا خطوط دخان تتصاعد من بيوتنا البعيدة فعرفنا أن "العوضى" ذبح الضَّحية و وَزَّع لحمها، وأنها الآن تنضج فوق النيران المتأججة في الكوانين، ونحن هنا يتصبَّب منا العرق والدم لا يزول! لذلك قرَّرنا دفن "حسن" بدمه، وقرَّرنا ألا نكفِّنه فى أى قماش، لأنه لن يفيد مع دمه المتدفق، وأخونا "زغلول" التُّربي كاد يقع وهو يأخذ الجسد المنفوخ منا ويضعه في مقبرته، وكاد يقع مرَّة أخرى وهو يأخذ الرَّأس من أخينا "مندور" لفرط ثقله، وكنَّا عاملين مناحة ونزعق: "مع السَّلامه يا حسن". "سلِّم على الحبايب يا حسن". "جايين وراك يا حسن". وكنا نشيل رمل الجبَّانة ونَحُطُّه على رؤوسنا عندما خرج "زغلول" التُّربي من المقبرة وألقى الرأس أمامنا، وصُعِقْنَا! لكن هو أخذ يسب ويلعن: "يا أولاد الكلب أنا فاضي لكم! يا أولاد الكلب تضحكون عَلَىْ! يا أولاد الكلب تعملون مناحة على خروف!". ولم نعرف ماذا نقول، وجاءتنا حالة ذهول، كان الرأس عندما نظرنا له نظرة جديدة رأس خروف! وأخذنا ننظر لبعض، ومضينا صامتين، وفي الشارع سمعنا أصواتا عالية شاربة من الحزن حتى ارتوت تطلع من راديوهاتنا: "الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا.. وسبحان الله بكرة وأصيلا".

 

وشمسنا المحلاَّة بالذهب فوق في السماء مبهرة.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة