U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

ديستوفيسكي في درب الأربعين بحثًا عن المأوى!


 
لي فترة مبتعد عن الفيسبوك، مبتعد عن التِّليفزيون، مبتعد عن الصَّحافة، متنقِّل بسيَّارتي الفيات الخضراء موديل 1974، التي تعاند حقيقة عمرها البالغ أرذله، وتُصر على الجري بين محافظات الجمهورية برشاقة مدَّعاة، ما بين القاهرة والأقصر وسوهاج، مخترقًا الصَّحراء الشَّرقية مَرَّة، والغربيَّة أخرى، أرى السَّماء في صفائها، الرِّمال في وحدتها، أشجار منثورة في قلب الفيافي كالرُّهبان، الصمت في غاية ضجيجه، القرار في منتهى ارتباكه، أحجار الفراعنة منحوتة بصخب حياة وَلَّت منذ دهور، ثمَّ الرَّاحة بين زروع الحقول الدَّافئة في المستقطع السُّوهاجي من وادي النِّيل المقدَّس.

اختشِ يا خمايسي! داخل على الخمسين من عمرك ولم تقرأ ديستوفيسكي بعد!

طيِّب؛ الخمسون سنّ مشينة، سنّ الرَّغبة المحمومة في سرد الاعترافات، ما الذي يضيرني لو قلت إنَّني، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حاولت قراءة "الجريمة والعقاب"، وكانت صدرت طبعة منها، على ما أتذكر، في سلسلة الأدب العالمي للنَّاشئين، وقتها لم أكن دخلت عشرينيَّات عمري، سنَّ التَّمرُّدات و"الاشتغالات"، لذلك أُغرمت أيَّما غرام بالتَّشويق داخل العمل الذي أقرأه! التَّشويق سيِّد القصَّة! حتَّى أكثر من الفكرة نفسها، فضلًا عن الهدف، أمَّا ما يسمَّى بالتَّراكيب اللغوية والأسلوبيَّة والبناء السَّردي و و و.. من مختلف أصول فنِّيات كتابة القصَّة أو الرِّواية، فقد كان الانتباه إلى أحدها يُعد بالنِّسبة لي ضربًا من ضروب المستحيلات، إذ كيف يمكني الانتباه إلى ما لا أراه أساسًا؟! ولا حتَّى يهمّني رؤيته! لذلك ما أن ارتكب "راسكولينكوف"، بطل رواية "الجريمة والعقاب"، جريمته، وقضي على العجوز المرابية وأختها المسكينة، ودخل في غيبوبة نوم مَرَضي عميق، حتَّى أخذت الرِّواية تبرد، فتركتها إلى غيرها كنحلة تتنقَّل بين الزُّهور تتعقَّب رحيق التَّشويق وفقط.

كان هذا خطأ، لكنَّه الخطأ الذي يلازم هذه الفترة العُمريَّة من حياة أي قارئ، حيث مقتبل العمر، والقلب قوي يبحث عن إثارة؛ أَمَا والمرء على مشارف العمر "الغِتت"، الرّذل، الخمسين سنة المنقضية، النِّصف قرن الفائت، فإنَّه من العيب أن أبقى غير قارئ لديستوفيسكي!

توكَّلت على الله وشرعت أقرأ "الجريمة والعقاب"، لكن في طبعة أصليَّة كاملة ومكتملة، لماذا الإصرار على "الجريمة والعقاب"؟! قد يكون حنين الضَّاربين في الرِّحلة إلى مشارفها الأولى المفعمة بالآمال، وقد يكون مسلكي في القراءة المبنيّ على إتمام الكتاب، حتَّى وإن كانت المسافة الزَّمنية بين شطري القراءة تزيد عن ثلاثين عامًا!

على كلٍّ، لم أنته من العشر صفحات الأُوَل حتَّى اقتنعت بأنَّني أمام أديب فارق، لا يشقّ له غبار، إنَّه لا يكتب، بل ينحت، وفي هذا العمر أمتلك قلبًا أضعف وروحًا أقوى، هذه الرُّوح، بعد أن قرأت ثلث الرِّواية تقريبًا، مؤمنة بأنَّ قلم ديستوفيسكي في "الجريمة والعقاب" لم تَسُقه أنامل الرَّجل، بل شغفه المعلَّق بروحه! ينحت بلا استعجال، يلتقط تفاصيل التَّفاصيل بعدسة مكبِّرة لا تُجهد ملكة التَّخييل لدى قارئه، هكذا يُجري هذا الخالق الرِّوائي عملية خلقه على أبرع ما يكون!

ولأنَّ "الجريمة والعقاب" ليست من روايات التَّشويق بالأساس فمن العيب التَّعامل معها على أنَّها شطيرة "تيك أواي"، تُلتهم في قضمة أو قضمتين، وإنَّما العدل والحق ينحيان بالقارئ منحى التَّعامل معها على أنَّها قطعة أفيون، توضع تحت اللسان وتُستحلب استحلابًا، ببطء وعلى فترات، فمثل هذه الأفيونة سيُسبِّب التهامها دفعة واحدة سطلًا وانبساطًا شديدين قد يدفعان المرء إلى الجنون!

قام بناء هذه الرِّواية على العديد من أحداث الصُّدفة! تغيَّرت مصائر الشَّخصيَّات الرَّئيسة، وحتَّى الثَّانوية منها، بسبب الصُّدف، كانت صدفًا عديدة وبسيطة بدرجة كافية لهدم "أجعصها" رواية، ومع ذلك لم تواجه "الجريمة والعقاب" هذا المصير المؤسف؛ بل العكس، تألَّقت، وها هي، وقد بلغت من العمر أرذله، تمرح بين روايات العصر الحديث بروح راقصة بالية طيَّارة! كيف أمكن لديستوفيسكي أن يدخلنا في مئة ألف حارة متفرِّعة من الشَّارع الرَّئيسي دون أن نشعر بالرَّغبة في لعن "سنسفيل" أمِّه؟! الإجابة بسيطة: كانت لكل حارة حكاية لها علاقة بالشَّارع الرَّئيسي، علاقة حتميَّة وضروريَّة، أو بالأحرى علاقة وثيقة وحقيقيَّة، غير مُدَّعاة.

ما الحكاية إذن؟! لماذا وأنا الذي أمنع نفسي منعًا من الاندياح مع ديستوفيسكي أجدني أدفع نفسي دفعا لاستكمال قراءة رواية "المأوى"؟! إنَّها ليست رواية سيِّئة، وقد بذل أمير حسين مجهودًا كبيرًا في كتابتها، لمسته في كل منطقة من مبناها، مع ذلك فالرِّواية تعاني من ثقل دم و"غلاسة" متناهيين، لأنَّ كاتبها، من وجهة نظري، لم يكتبها بقدر ما صنعها، لم يكن بسيطًا حقيقيًّا، بل كان مُركَّبا مُدَّعيا، لم يدفعه شغف الرُّواة للكتابة بقدر ما كان راغبًا في سرد رواية لإصابة العديد من الأهداف القريبة ورخيصة القيمة في ذات الوقت، في "المأوى" شيء من البوليسيَّة، على شيء من الرُّعب، على شيء من التَّاريخية، ثم لم يستطع أمير حسين الوصول إلى سرّ أسرار توافق المزج بين كل هذه الأشياء، لتنتهي روايته إلى ما وصفتها به من قبل، ثقل الدَّم و"الغلاسة"، ورغبة متناهية في لعن "سنسفيل" أم الهندسة أثناء الكتابة!

اقترب عدد صفحات "الجريمة والعقاب"، في بعض الطَّبعات، من الألف صفحة، مزمزت منها اربعمائة صفحة، في هذه الأربعمائة صفحة لم ينشغل ديستوفيسكي بغير الحالة النفسيَّة لبطله قبل شروعه في تنفيذ جريمة قتل المرابية الشَّمطاء، وحالته النَّفسية بعد تنفيذها، وبواسطة هذا الاهتمام، وبخفَّة أداء إبداعي، وبلطف وظرف سرديَّين، أمكنه رَسم صورة كاملة لمدينة روسيَّة في القرن التَّاسع عشر دون الخروج عن إطار هذه الحالة النَّفسية لراسكولينكوف!

ولأنِّي راغب في مزمزة "الجريمة والعقاب" على مهل، ولأنَّ "غلاسة" المأوى أثارت حفيظتي، قرَّرت قراءة رواية "درب الأربعين"، واخترت هذه الرواية لأن كاتبها، ماجد شيحة، سبق له أن قدَّم للحركة الأدبيَّة رواية "سلفي يكتب الرِّوايات سرًّا"، وقد كشفت هذه الرِّواية عن معدن روائيٍّ حقيقي، يكتب بهدوء، لا يدَّعي، يستعرض الرِّواية استعراضًا طاووسيًّا مبهجًا، ببطء ومكانة! روائي يجب أن استمتع بمتابعته، فقلت أقرأ "درب الأربعين".

قرأتها تامَّة! كتب ديستوفيسكي ألف صفحة عن حدث ليس خطيرًا للحد الذي كانت عليه خطورة غياب أب عن بيته، و"لوصة" أبنائه إزاء هذا الأمر، وتَطوُّع "مصدق" الأبن الأصغر بالارتحال إلى الصَّعيد لتتبُّع آثار الوالد المُغرم بالجِمَال، صاحب الحس الصُّوفي، حدث كهذا ربما لو تعرَّض ديستوفيسكي له بالرِّواية لكتبه في تسعة آلاف صفحة، أو تسعة عشر ألف صفحة، ولبَطَّأ الحكي محاذيًا الحادي، بينما شيحة يحكي بسرعة مقاتلة "رافال" فرنسيَّة! يلهث، ويجري، ويلهث، ويركض، ويلهث. يلهث حتَّى وإن اضطَّره اللهاث للتوقُّف قليلًا عن اللهاث!

عالم الصحراء لن تكتبه سرعة "الرَّافال"، ولكن بطء الجِمَال يفعل ذلك، لن ينقله قرار روائي بالكتابة عنه، يفعل ذلك من عاش الصَّحراء فعضَّته، أو قبَّلته فسحرته؛ كما أنَّه في الوقت الذي لم تتمكَّن عشرات الصُّدف من هدم "الجريمة والعقاب"، بل زادتها تألُّقًا ووهجًا، فإنَّ صدفة واحدة جرت وقائعها قبل مائة صفحة من نهاية "درب الأربعين"، تلك التي سقط فيها "مصدق" داخل حفرة صحراويَّة أنبوبيَّة مجهَّزة بالطَّعام والماء والوثائق! أفلحت في إثارة غيظي درجة أنني في كل صفحة من هذه الصَّفحات المائة لعنت سنسفيل "أم الصُّدف" على "أبو الصُّدف".

المستقطع السُّوهاجي من النِّيل المقدَّس حقيقي جدًّا، يجري كالرِّضاب بين شفتين من حقول خضراء، ببطء وثقة وحلاوة، هذه الجبال البعيدة الرَّاسخة في الأفقين، الشَّرقي والغربي، تباشير الصَّحاري، الحيَّات الماكرة تتلوَّى ببطء وصدق، سيارتي الفيات موديل 1974 سيَّارة حقيقيَّة وصادقة، من غير حقيقيَّتها وصدقها لما أمكنها التَّنقل برشاقة بين محافظات مصر. مغارب القرى تلوح، الزُّروع تتَّكئ إلى بعضها كالدَّجاج، الليل قادم، عبير النَّباتات فوَّاح بالعطر الرُّوحاني.   

لا أعرف!

لكن ربما أعظم الرِّوائيين هم هؤلاء اللامُدَّعون، اللا متكلِّفون أثناء الكتابة.

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة