أنا والآخر، كلانا ننتمي للجنس البشري المتميِّز عن بقيَّة الأجناس التي تشاركه الحياة على الأرض بعدَّة مزايا؛ أهمُّها التَّفكير الحر.
الأجناس الأخرى مُنقادة بأنماط تفكيريَّة ثابتة، لا تختلف ردود أفعال أفرادها بحذاء فعل ما في نفس الظَّرف، فالقططة لا بد من أن تُواري ما تخلَّف عن قضاء حاجتها، في سبيل ذلك تُحرِّك مخالبها الأماميَّة لتزيح التُّراب أو الرَّمل تنثُره فوق فضلاتها.
البشر ليسوا كذلك، إذ أضيف لغرائزهم برنامج تفكيريٌّ
معقَّد، يسمح لكل فرد من هذا الجنس بأن تختلف ردود أفعاله تجاه فعل ما عن ردود فعل
فرد آخر بحذاء نفس الفعل، فهو مثلًا ليس كالقططة إزاء كيفيَّة التَّعامل مع
فضلاته، كل فرد من أفراد الجنس البشري يمكنه التَّعامل إزاء فضلاته بأكثر من طريقة
تليق بالجماليات الممنوحة له كجنس راق.
إمكانيَّة تعدُّد ردود الأفعال ملكة تؤدِّي إلى التَّطور
بين الأجناس، وإلى التَّميز داخل نفس الجنس، ما يعني استحالة أن يكون الآدميون مثل
القططة، مليارات النُّسخ لآدميٍّ واحد، بل ستكون هناك نتيجة واحدة طبيعيَّة؛
التَّعارض.
لن نأكل جميعًا نفس الطَّعام بنفس طريقة الطَّهو في نفس الوقت، لن نشرب نفس العصائر بنفس طريقة العصر في نفس الوقت، لن نمارس الجنس بنفس الأداء في نفس الوقت، لن نتكلَّم نفس الكلام في نفس الوقت، كما لن نؤمن بالله جميعًا نفس الإيمان طوال الوقت، لن نتواءم أيديولوجيًّا على الدَّوام، كما إنَّنا لن نتَّفق داخل الوطن الواحد سياسيًّا إلى الإبد، لذلك فإنَّه كما لا يدين أحدُنا الآخرَ بسبب اختلاف طعامه وشرابه وملبسه، فإنَّه لا يجب إدانته لاختلاف عقيدته أو مذهبه أو أيديولوجيَّته.
وإذا مارست كلُّ طوائف البشر فعل الإدانة فإنَّه لا يجب على المثقَّفين تحديدًا ممارسته، لأنَّهم يمثِّلون طائفةً المفترض أنَّها الأكثر قدرة على الاحتواء، إذ أنَّها قرأت وعرفت وفهمت أنَّ الإنسان يأتي أولًا، وأنَّ الإنسان لا يكون إنسانًا إن لم يكن فكرة متعارضة، كيانًا معبَّأ بالتَّناقض، والتَّناقض ليس عيبًا كما يُشاع، بل هو مَيزة الخلق الكبرى، هو شرارة تشغيل الحياة؛ لا جريان للنَّهر دون وجود واد ينحدر من "علوٍّ" إلى "دنوٍّ"، لا نموٌّ دون دفع من "أسفل" إلى "أعلى"، لا طاقة دون "موجب" و"سالب"، لا جنس يهب جنينًا مبهجًا دون عضو ذكري "بارز" وعضو أنثوي "مجوَّف".وكما أنَّ المثقَّف نوعان: حقيقيٌّ، ومدَّعٍ. فإنَّ المثقَّف الحقيقي نوعان أيضا: عامل، ومنتسب.
المثقَّف، المنتسب للثَّقافة، هو المهموم بتحصيلها من بين جنبات الكتب، من خلالها يكوِّن فكرته عن الجمال، عقله ذاكرة صلبة يحتفظ فيها بمئات النَّظريات الفلسفيَّة التي يراها مخلصة لهذه الفكرة، وتتلخَّص رؤيته الثَّقافية في أنَّ الإنسانيَّة تتطوَّر إذا خدم الإنسان فكرة الجمال؛ لا يجد غضاضة في معاداة الإنسان الذي لا يخدم هذه الفكرة، وإن لم يتوقَّف هذا الإنسان عند حد عدم الخدمة لصالح هذه الفكرة، بل تطاول إلى حد رفضها، فإنَّه سيُعاديه درجة الرَّغبة في الخلاص منه، فهذا الإنسان حسب رؤيته مُعوِّق للإنسانيَّة؛ مثل هذا المثقَّف المنتسب لن يجد غضاضة في الدَّعوة إلى إقصاء هذا الإنسان حتَّى القتل، مبرِّره في ذلك الحفاظ على فكرة الجمال!أمَّا المثقَّف، العامل بالثَّقافة، فهو المهموم بتحصيلها من بين جنبات الإنسان، الكتب فقط أدوات إضاءة لهذه الجنبات المُستَغلَقة، أمَّا الإنسان ذاته فهو فكرته الأساسيَّة، لأنَّ وجود الإنسان سبق أفكاره، والفكرة ليست غير قطرة في وعاء الإنسانيَّة، وفكرة الجمال يجب تسخيرها لصالح الإنسان لا العكس؛ هذا المثقَّف العامل بالثَّقافة يمارس الإقصاء أيضا، لكن ليس ضد الإنسان، بل ضد أي منهاج يؤدِّي بعيدًا عن الإنسان، ومستعد للقتل أيضًا، يقتل أيَّ خاطرة يمكن أن تضاد الإنسان، لذلك يتَّسع صدره للجميع، يؤمن باختلافهم، يسعى إلى التَّصحيح بالقبول الحقيقي للآخر، يفهم أنَّ القيمة الواحدة عادة ما يُنظر إليها من اتِّجاهين متضادَّين فيختلف تقديرها، إذ ما يراه المسلم إيمانًا يراه المسيحيُّ كفرًا، والعكس، القتيل شهيدٌ عند أقوام مجرمٌ هالك عند آخرين، الجاسوس رجل وطنيٌّ جدًّا بالنِّسبة لوطنه خائن بالنِّسبة لوطن آخر، وهكذا، أي أن للجميع من يؤيِّدهم درجة التَّقديس، ومن يعارضهم درجة التَّدنيس.
وبلد مثل "مصر"، في هذه الفترة الصَّعبة
المشحونة بالتَّوتر لا تحتاج إلى المثقَّف المنتسب للثَّقافة، الذي يبني نظرياته
على قراءة الكتب، وإنَّما تحتاج المثقَّف العامل بالثَّقافة،
اللصيق بالإنسان، هذا الذي يرى أنَّ المواطن المصريَّ إنسان واحد وإن اختلفت
أفكاره، وأنَّ هذا المواطن تحديدًا لا يحتاج غير الاعتراف به كي يمنحك قلبه
لتفتِّش فيه عنه.
الاعتراف بالآخر وحقِّه في ممارسة مواطنته هو بداية حل المشكلة المصريَّة الآنيَّة.

إرسال تعليق