U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "العجوز والبحر" لأرنست هيمنجواي

 



لم يكن غريبًا بالنِّسبة لـ"سانتياجو"، صَيَّاد الأسماك العجوز، أن يخرج لأَيَّام طويلة إلى البحر ثُمَّ يعود خالي الوفاض، قبل أن تنفرط الأزمة، فيتواصل صيده الوفير لأسابيع.

لكن، في هذه المَرَّة الأخيرة، بخل البحر بأسماكه لأَيَّام عديدة طويلة، تَخطَّت الشَّهرين! ما أَدَّى إلى فقدانه خدمة الصَّبيّ "مانولين، عندما أَصرَّ أبواه على إلحاقه بخدمة صَيَّاد آخر أكثر حَظًّا من "سانتياجو" العجوز.

 ظَلَّ "مانولين" وَفيًّا لمُعلِّمه العجوز؛ يسارع إلى الاعتناء به إذا ما انتهى من خدمة الصَّيَّاد الجديد، يحضر له الطَّعام، ويشرف على راحته حتَّى ينام. وأخيرًا أخبر "سنتياجو" صديقه الصَّغير بأنَّ 84 يومًا قد انقضت دون صيد، وأنَّه ذاهب غدًا ليكون اليوم 85 يوم القضاء على الحَظِّ التَّعس. وأنَّه سيصطاد سمكة كبيرة، أكبر من أَيّ سمكة صيدت قبلًا.

 يُجهِّز "مانولين" مُعلِّمه السَّابق إلى أن ينطلق الأخير في ظلام ما قبل الفجر إلى البحر. يضرب "سانتياجو" في البحر بعيدًا، وقد ألقى بالحبال الصَّيَّادة إلى مسافات مختلفة من عمق البحر. كان العجوز قد لفت نظر "مانولين" إلى أنَّه لا يجب على المرء الكلام في البحر. لذلك، ومهما كانا يتَكلَّمان كثيرًا على الشَّاطئ في أمور مختلفة، أَهمّها رياضة "البيسبول"، فرقها المتنافسة وأبطالها، إِلَّا أنَّهما يصمتان تمامًا وهما في البحر. مع ذلك فإنَّ العجوز، بينما هو يَغزّ بين الأمواج وحيدًا، ينتظر فخاخه أن تعمل، لا يَكفّ عن التَّكلُّم، بصوت عال! يُكلِّم نفسه. يُكلِّم طائرًا شاردًا متعبًا. يُكلِّم أسماكًا طَيَّارة، ودلافين. ثُمَّ بالأخير. وبعد أن تقع سمكة "مرلين" ضخمة، وكانت فعلًا أضخم من أَيّ سمكة صيدت من قبل، في شراكه، ينهمك في الكلام معها طوال يومين! وإذا تَوقَّف عن الكلام معها تَكلَّم مع يده المصابة، ومع يده غير المصابة، ومع عقله. ثُمَّ في النِّهاية تَكلَّم مع أسماك "القرش" قبل أن يعود إلى حجرته على الشَّاطئ، ويصمت لينام.

 كانت سمكة نبيلة. لم تستسلم بسهولة. كما لم تُظهِر حركات مقاومة رعناء. فقط كانت تسحب قاربه بهدوء، وأناة، واطِّراد، إلى بعيد. أبعد مما تَصوَّر. حتَّى أنَّ شواطئ "هافانا" الكُوبيَّة تختفي تمامًا عن ناظريه. وكان صبورًا. بنفس قدر رغبته في اصطيادها وقتلها حمل لها حُبًّا وتقديرًا. كان يناديها بالأخت! ثُمَّ رآها شريكة له في مواجهة بؤس العالم؛ مع ذلك فليس بمستطاعه غير اصطيادها؛ فقد خُلِق صَيَّادًا، وخُلِقت سمكة.

 بعد يومين من الكفاح والصَّبر، والإصابات المبرحة، وتَصلُّب العظام، يتَمكَّن من اصطيادها، وربطها إلى القارب. فلم يكن بوسع القارب احتواءها، كما أنَّ "سانتياجو" وحيد، لا يستطيع رفعها إلى القارب بمفرده، فيربطها إلى أحد جوانبه، ويُبحِر عائدًا، يحسب كم سنتًا ستُدِر عليه تلك السَّمكة، التي لا يَقلّ وزنها عن 1500 رطل؟ ستُربِحه قدرًا من المال يكفيه طوال الشِّتاء.

 لكن. تظهر أسماك "القرش"، وقد هَيَّجها دم السَّمكة النَّازف. يحاربها العجوز قرشًا إثر قرش. يفقد حربته. ثُمَّ يفقد سكينه، قبل أن يفقد مجدافيه. ليصير أعزل. تتكالب القروش على سمكته فلا تُبقي منها غير هيكلها الشَّوكيّ.

 يعود العجوز إلى الشَّاطئ، في منتصف الليل، بقاربه وقد شُدَّ إلى أحد جنبيه هيكل شَوكيّ لسمكة هائلة الحجم. يدخل غرفته وينام. ليوقطه "مانولين" صباحًا وقد حمل إليه القهوة السَّاخنة الممزوجة باللبن. يبكي "مانولين". ويطالب "سانتياجو" باستعادة قُوَّته، لأنَّه ترك الخدمة في القارب الآخر، راغبًا في العودة لخدمته، لمعرفته أنَّ لديه الكثير الذي يجب تَعلُّمه.

 في مشهد الرواية الأخير يسأل أحد رواد الشَّاطئ، من السِّياح، مرافقته عن هذا الهيكل الشَّوكيّ، وقد أُلقِي على الشَّاطئ كنفاية، لأَيّ سمكة؟ فتجيبه المرافقة بلا مبالاة بأنَّه ربما لسمكة "قرش".

 إنَّها رواية "العجوز والبحر"، للأمريكي "أرنست هيمنجواي". مسرودة غاية في البداعة. حُكِيت ببساطة. مع ذلك فهي البساطة المربكة لعقل قارئها، المثيرة لقلبه، المُفجِّرة لشجونه. ليحتار فيما إن كانت رواية طَرَّاحة أسئلة، أم حَصَّادة إجابات.

 حكى القِصَّة راو عليم. مع ذلك أمتع "هيمنجواي" قارئه بمنحه مساحة تَلصُّص مضافة على شَخصيَّته الرَّئيسة، بواسطة حوار طويل مجدول بين "سانتياجو" والوجود من حوله. بين "سانتياجو" ووجوده ذاته. ليصنع أسلوبًا ممتازًا، هجينًا، باختلاط الرَّواي العليم في الرَّاوي المُتكلِّم. حتَّى أنَّه صرف انتباهنا تمامًا عن استحالة قيام العجوز بهدر كُلّ هذا الكلام فيما يعتقد ضرورة الصَّمت في البحر!

 البحر عالم الصَّيد؛ الجميع يصيد الجميع. وليس على الرَّجل الحَقيقيّ أن ييأس، بل يُعدّ العُدَّة لأجل أن يكون صَيَّادًا. وإِلَّا فإنَّه الفريسة. وإذا كان العجوز قادرًا على اصطياد سمكة، بعد إجهاد يومين كاملين، ومقاتلة كتيبة من القروش على مدى نصف نهار وليلة أخرى كاملة، ثُمَّ العودة بقاربه سليمًا معافى، وإن دون صيد، فإنَّه فتى قَويٌّ.

 كان "هيمنجواي" من هؤلاء الرُّواة العظماء، قليلو الأدب، والأوصياء على الأدب! مِمَّن يُحبُّون إبداء الرَّأي في أعمال الرِّوائيين الآخرين، ونقد التَّافه منها بمنتهى العنف. لا يفتأ يخرج من معركة ليدخل في معركة أخرى. "ربما بحثًا عن الشهرة!" أخذ النُّقَّاد منه موقفًا أعدائيًا، لفجاجته، مع ذلك انتبه له الحَقيقيُّون، منصفو النَّصّ لا جَلَّادو كاتبه، ليمنحونه "بوليتزر"، أَهمّ جائزة أَميريكيَّة. قبل أن يحصل على "نوبل"، التي أشادت لجنتها، في تقريرها، بإعجاب "هيمنجواي" بكُلّ إنسان يقاتل قتالًا حَقيقيًّا، مُخلصًا، في عالم يُظلِّله الخوف والموت. وأضيف "الزَّيف".  

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة