U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قراءة في رواية "الجمعية السرية للمواطنين" لأشرف العشماوي

 



تدور أحداث الرِّواية بشخصيَّة رئيسة وحيدة، تلفُّ بفلكها شخصيَّات ثانويَّة عديدة، هذه الشَّخصية الرَّئيسة، وبتعبير الرَّاوي العليم داخل العمل: ".. البطل الذي لا يُضبط ولا يموت حتى مشهد النهاية مثلما يحدث في كل أفلامنا".

إنَّه معتوق؛ رسَّام يرسم لوحاته بتوقيع شخص آخر، هذا الآخر يستطيع تسويق اللوحات لما يتمتَّع به من قدرة على تكوين علاقات قويَّة تنفذ به إلى الأوساط من البشر المهتمَّة باقتناء اللوحات الفنيَّة. وهكذا معتوق رسَّام ظِلٍّ، بلا معارض أو لوحات باسمه، يفشل فشلًا ذريعًا يودي به إلى المشاركة في تخطيط وتنفيذ جريمة سرقة لوحة "زهرة الخشخاش" الشَّهيرة. وعلى إثر هذه الجريمة يتمُّ القبض عليه، ويودع في مستشفى الأمراض النَّفسيَّة بالعبَّاسيَّة لتحديد قدراته العقليَّة بدفوع من محاميه، ويمكث بالمستشفى عشر سنوات كاملة، قبل أن يخرج بشهادة تؤكِّد إصابته باضطرابات عقليَّة ونفسيَّة، تمنحه البراءة من جريمة سرقة اللوحة، خصوصًا وأنَّ الجهات المسؤولة في الدَّولة لا تسعى إلى فتح باب التَّحقيق في ظل وجود لوحة "زهرة خشخاش" فعلًا! كان معتوق قد رسمها تقليدًا دقيقًا للَّوحة الأصليَّة، وضعها في الإطار بدلًا منها بعد سرقتها.

يخرج معتوق من المستشفى ليجد ابنته الوحيدة، اسمها زهرة، ,قد استولى عليها خالها، حتَّى أنَّه استخرج لها بطاقة هويَّة يضع اسمه فيها أبًا لها بدلًا منه، بوجهة نظر مفاداها تخليص زهرة من تبعات اسم أبيها الموصوم بالسَّرقة والجنون.

أيضًا يجد حبيبته، اسمها راوية، قد تزوَّجت، بعد فقدها الأمل في خروجه من المستشفى، بسبب تشبُّثه بمقولاته المرفوضة عن كونه صاحب لوحة "زهرة الخشخاش" المُقلَّدة، الموجودة في المعرض الشَّهير، وأنَّ اللوحة الأصليَّة لا وجود لها بعد أن سُرقت.

هذا مع التماسه لتغييرات مجتمعيَّة أخرى في عزبة الوالدة بحلوان، المنطقة التي يعيش فيها. فتاجر الحشيش المسيحيّ مات، في حين ظلَّت زوجته، اسمها أنهار، تحفظ تجارته مع ادّعائها العمى؛ وهكذا شخصيَّات الرِّواية كُلّها، والتي قام معتوق برسمهم جميعًا في لوحة واحدة، رسمة حاول بها وضع كل شخصيَّة في التَّصوُّر الأقرب لحقيقتها في أبعد أعماقها.

ولأنَّ معتوق فنَّان موهوب، فاشل على مستوى تسويق لوحاته، لا يملك عملًا يتقوَّت به، اتَّجه إلى تزوير النُّقود، فحصل على ماكينة طباعة ألمانيَّة متطوِّرة، وبدأ العمل. لكن الفنَّان فنَّان مهما ارتكب من جرائم، يظلُّ شعوره عطائيًا، فقرَّر ألَّا يستفيد وحده بالنَّقد الزَّائف، بل تزويد كلّ ذي حاجة في عزبة الوالدة بالنُّقود الازمة له، على أن يكون عضوًا في جمعيَّة سريَّة قام بتكوينها مع مؤسِّسين أوائل من رفاق عزبة الوالدة، هؤلاء الذين جمعهم في لوحته، مجموعة من شذاذ القوم، منهم السَّارق وتاجر الحشيش ومرشد الشُّرطة وسِمَّاوي الكلاب، وعامل المجاري، والمحامي المنتمي للمحاماة بأوراق مُزوَّرة، وهكذا.

لكن، وبتعبير الرَّاوي العليم الذي هو صوت الكاتب نفسه، "مثلما يحدث في كل أفلامنا" ـ مع اعتراضي الشَّديد على الفكرة التي تشيعها هذه المقولة باعتبار "كل" أفلامنا ساذجة ـ فإنَّ رواية "الجمعيَّة السريَّة للمواطنين" خرجت للوجود أقرب ما تكون لفيلم هنديٍّ شديد السَّذاجة؛ فها هو، مثلًا، معتوق رفاعي (الشَّخصيَّة الرَّئيسة ومحور الرِّواية) وبينما يرتكب جريمة سرقة لوحة "زهرة الخشخاش" الأصليَّة، مستبدلًا إيَّاها بلوحته المُقلَّدة، يسرح متصوِّرًا نفسه الفنَّان الشَّهير، يسمع تصفيق المشاهدين، ويشير لهم مُحيِّيًا، ويتيه، حتَّى يخرجه أحد أفراد فرقة السَّرقة من الوهم. والمشهد واحد من مئات المشاهد السَّاذجة في الرِّواية، ليس فقط لأنَّ معتوق لن يجد وقتًا للسَّرحان والتِّيه فيما يرتكب جريمة بحجم سرقة أهمّ لوحة في مصر، وإنما أيضًا لخلط كاتب الرِّواية بين ردِّ فعل روَّاد المعارض إعجابًا بلوحة وبين ردِّ فعل جمهور السِّيرك، أو جمهور المسرح، إعجابا بفقرة أو مشهد؛ روَّاد المعارض يُعجبون بصمت وقور، أو بابتسامة هامسة، أو بتأمُّل جليل، لا بهتافات أو تصفيق.

كذلك من السَّذاجة المفرطة أن يُصرِّح معتوق بطبيعة عمله في ظرف يدفعه إلى المراوغة، فقد كانت الشُّرطة تبحث عن سارقي اللوحة، فاستوقفته دوريَّة شرطة في ميدان الدَّوران بحلوان، يطلب الضَّابط منه إبراز بطاقة هويَّته، ويسأله عن عمله، فيجيبه معتوق، ويا للغرابة، بأنَّه فنَّان تشكيليّ! وكأنَّه يضع نفسه طواعية في مهبِّ الشُّبهات.

وعلى نفس سبيل السَّذاجة تقوم حبكة تسعين في المئة من وقائع معتوق رفاعي، الذي لا نتمكَّن، كقُرَّاء، من تصديق دوافعه إلى السَّرقة، أو تزوير النُّقود والأوراق الثُّبوتيَّة لابن حتّته شاهين، فيحوِّله من عرضحالجي على الرَّصيف إلى محامي عضو في نقابة المحامين، أو تزوير استمارة نجاح لابنته تُحقِّق لها نجاحًا غير مُستحقّ، وهكذا دواليك. كما لا نفهم دوافعه إلى إنشاء جمعيَّة سريَّة للمواطنين، ولا سبب تسميتها، أو طبيعتها!

ثُمَّ يبالغ الكاتب في إشاعة السَّذاجة داخل روايته لدرجة ظنَّ معها أنَّ قُرَّاءه سُذَّج، يستمتعون بالسَّذاجة، ما يترتَّب عليه تقديم المزيد والمزيد منها لهم.

فتُقدِّم لنا الرِّواية شخصيَّة خليل البنهاوي باعتباره أكبر أطبَّاء مستشفى الأمراض النَّفسيَّة، فهو من يستقبل الحالات، ويُقيِّمها، ويُقدَّم خطط علاجاتها، وتقارير متابعاتها، ويوثِّقها بالأختام الرَّسميَّة، مع جميع ذلك يخبرنا الراوي العليم بأنَّ خليل هذا ليس طبيبًا بالمَرَّة! وإنَّما نزيل مثل أي مريض نفسيّ، قبض عليه لادِّعائه الطِّب، وأودع المستشفى بدفوع محاميه أيضًا، شغوف بأن يكون طبيبًا ممارسًا، وقد وجد ذلك في مستشفى المجانين، وكأنَّ المستشفى غير خاضع لوزارة الصِّحَّة، فيتمكَّن المريض، بكُلِّ بساطة، من أن يكون طبيبًا ومديرًا لمستشفى حكوميّ!

والسِّت أنهار، تاجرة الحشيش، التي تخُرُّ بكُلِّ ما لديها من أسرار عن تجارتها الممنوعة لمعتوق، العائد إلى الحتّة بعد غياب عشر سنوات من مستشفى المجانين!

وقد سبقت إشارتنا إلى أنَّ خال زهرة، بنت معتوق، قد نسبها إليه لتتخلَّص من تبعات اسم أبيها المُتَّهم بالسَّرقة، والموصوم بالجنون، هذا مع بقاء زهرة في نفس البيئة بحلوان لمُدَّة طويلة قبل انتقالها إلى الدُّقِّي، وكأنَّ العار يمكن إزالته بمجرد تغيير الاسم!

هكذا تنتشر السَّذاجة في جميع شخصيَّات "الجمعيَّة السريَّة للمواطنين" انتشار خلايا ورم سرطانيٍّ فاتك، ولولا الإطالة فيما لا يفيد لاستعرضنا جميع ما ورد من سذاجات تصيب قارئ الرِّواية، غير السَّاذج، بإعياء ذهنيٍّ شديد، يصرفه حتمًا عن استكمال قراءتها.

وليت تسونامي السَّذاجة انحسر عند اجتياح شخصيَّاتها وفقط، بل امتدَّ ليجتاح الرَّاوي العليم نفسه، المغرم بتصدير كلّ فصل، وكلّ مقطع، بسطر افتتاحيٍّ يمكن للقارئ السَّاذج انتزاعه ووضعه على صفحته باعتباره اقتباس لحكمة أو فلسفة بديعة، وهي في الحقيقة ليست أكثر من كلمات استعراضيَّة لم تُقدَّم جديدًا على مستوى الحكمة، أو الفلسفة، ولم تصل إلى مستوى القديم منها! مثلًا: يقول الرَّاوي: "الحياة مثل فيلم سينمائي طويل لا يصح أن تكون طوال عرضه من المشاهدين". فأسأل: وما الذي يصحُّ لمشاهد الفيلم طوال عرضه غير أن يكون مُشاهِدًا؟ هل يقفز من مقعده، ويدخل الشَّاسة، ويُمثِّل مع المُمثِّلين!

ويقول الرَّاوي: "الحياة رحلة طويلة من المتاعب، والسعادة فواصل قصيرة بينها، نفحات فرح محلاة بالصبر ليستكمل المواطنون المواجهة بحلبة ملاكمة، يرتقونها عندما يدق الجرس، يتلقون ضربات موجعة من الزمن، يتألمون كثيرا، يتألمون أحيانا ثم يتهاوون ببطء، وفي النهاية يموتون خاسرين". فأسأل: الحياة رحلة سفر أم مباراة ملاكمة؟ والمواطنون في مركبة أم على حلبة؟ ويتألَّمون كثيرًا أم أحيانًا؟ ومن قال إنَّ الجميع في النِّهاية خاسرون؟ فهناك من تنتهي رحلتهم بالوصول، ومن تنتهي مباراتهم بالفوز.

وكما للاستهلالات كان لقفلات معظم الفصول نصيبها الوافر من السَّذاجة المفرطة، مثلا: يقول الرَّواي العليم واصفًا لحظة انتهاء معتوق وراوية من لقاء جنسيٍّ جميم: "انتهيا ووضعت رأسها على صدره وهو يحتويها بذراعيه، أغمضا عينيهما وربما راحا في حلم جميل في غفلة من القدر الذي لو رآهما الآن من بعيد فلن يفكر مرتين في أن تكون تلك اللوحة بعنوان وحيد (انتهينا لكن أرواحنا لا تزال تشتهي)". فأسأل: هل كان القدر شرِّيرًا حتَّى أنَّ العاشقَين لم يتمكَّنا من النَّوم والأحلام الجميلة إلَّا في غفلة منه، أم هو قدر طيِّب القلب لدرجة أنَّه (لو رآهما!) فإنَّه (لن يفكِّر مرَّتين!) في أن يجعلهما موضوع لوحة فنيَّة يضع لها عنوانا نبيلًا؟

ولنلاحظ أنَّ جميع الاقتباسات التي أسترشد بها تعاني من عدم وجود علامات ترقيم، وهذا عيب كبير داخل البناء السَّردي الرِّوائي.

استشراء السَّذاجة في "الجمعيَّة السريَّة للمواطنين" أدَّى بالضُّرورة إلى اختلال قدرة الكاتب على رسم الصُّورة بالكلمات والتَّركيبات اللغويَّة المناسبة. مثلًا لا حصرًا: معتوق، الذي يُحبُّ طفلته زهرة، ينظر إليها وهي نائمة في كرسيِّها وقد غَطَّت وجهها بكرَّاستها، وهو يريد رفع الكرَّاسة عن وجهها دون إزعاجها، فكيف صاغ الكاتب هذه الصُّورة؟

كتبها هكذا: "جذب الكراسة من على وجه الطفلة النائمة".

و"الجذب" مفردة تعني الأخذ بقوَّة ينتج عنها احتكاك شديد لا بُدَّ يزعج الطِّفلة، فيوقظها من نومها مفزوعة، وهذا عكس مراد الكاتب.

و: في اللقاء الحميم بين معتوق وراوية، يقول الرَّواي: "احتضنها وأصابعهما تتشابكان في عناق آخر". فكيف لأصابعِ مُتعانقَين التَّشابُك؟ إذ مع العناق تكون يدا المُعانِق خلف ظهر مُعانِقه، ما يستحيل معه للأصابع أن تتلامس، فضلًا عن أن تشتبك.

و: "تمايلت الأريكة العريضة وهما يتقلبان عليها ويهتزان بقوة حتى سكن جسد معتوق اولا"؛ فكيف لأريكة (عريضة) أن تتمايل! وهل تصحُّ مفردة (التَّقلُّب) للتَّعبير عن تبادل أوضاع ممارسة الحُبِّ؟ وهل يصحُّ وصف تثنِّيات وتموُّجات الجسم في حالة الحُبِّ بالاهتزاز!

وهلم جرَّا.

أمَّا عن طبيعة اللغة في "الجمعيَّة السِّريَّة للمواطنين"، فسأكرِّر ما قلته عنها في رؤيتي لروايته السَّابقة "صالة أورفانيللي"؛ إنَّها لغة توصيليَّة، إخباريَّة، تهتمُّ بالنَّقل، جديرة بأن تكون لغة (المشهديَّة) التي تروق للعشماوي، لكن من المؤكِّد أنَّه مستوى من اللغة لا يروق لأيِّ قارئ مُتذوِّق خبير بحلويَّات اللغة الأدبيَّة.

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة