تسكن، مع أسرتك الصَّغيرة، بيتًا عائليًّا ورثتَه أبًا عن جدّ، البيت عتيق، ناءت جدرانه بالأحمال الزَّمنية فتصدَّعت صدوعات خطيرة؛ لك جار ثري، قلبه عطوف، خشي من تهدُّم هذا البيت فوق رؤوسكم، بنى بيتًا عصريًّا جميلًا، رحبًا وقويًّا، عاد إليك يأمرك بالانتقال إليه، قائلًا بحدَّة: ما هذا البيت الرَّديء الذي تسكنه؟! واضح من بنيانه أنَّ أجدادك جهلاء بفنون البنيان، واضح أيضًا أنَّ جهلهم انتقل إليك بالوراثة فلا تنتبه إلى أيلولته للسقوط بسبب هذه الشُّقوق العميقة، عمومًا إحمد ربَّنا أن جارًا كريمًا عطوفًا مثلي خشي عليك فبنى لك بيتًا عصريًّا كي يُنقذك من مصير أسود يترقَّبك وأسرتك، هيَّا اترك هذه القمامة التي خلَّفها لك آباؤك و"لم العزال" بأسرع ما يمكن، تعال اسكن سكنًا حضاريًّا آمنًا، ولندع المختصِّين يقومون بعملهم لإزالة بيتك الخرب هذا.
إذا كنت ممَّن يتمسَّكون بالحياة على أي حال فلن تضيرك استعلائيَّة خطاب جارك كثيرًا، لن يؤذيك الانبطاح لاستعلائيَّته طالما في الانبطاح نجاة لك ولأسرتك! لذلك ستسحب عيالك من بيت العائلة القديم إلى البيت العصري وأنت تلهج بحمد وشكر هذا الجار الثَّري أن أنقذكم من موت محقق، حتَّى وإن كان لسانه سليطًا درجة تسفيه آبائك وأمَّهاتك الأوَّلين والأوليات!
أمَّا إن كنت ممَّن يتمسَّكون بالحياة الكريمة فسيزلزل هذا الخطاب الفوقي قلبك ويضربه بالشُّروخ، ستتساءل بينك ونفسك إن كان يمكنك فعلًا الانتقال إلى هذا البيت العصري وأنت مُهدَّم الرُّوح! مسلوب الكيان والسَّمت! سترفض بإباء دعوة هذا الجار؛ بل إن كنت من أصحاب الدَّم السَّاخن يمكن أن يتطوَّر الأمر إلى تعدِّيك عليه بالقول الفاحش، والفعل الفاضح.
ماذا لو أنَّ هذا الجار تخلَّص من سلاطة لسانه، وطريقته الاستعلائيَّة في التَّعبير عن رغباته الإصلاحيَّة، ودعا الرَّجل للانتقال قائلًا: كم هو جميل هذا البيت الذي تُقيم فيه، إنَّه مُهندَس بعقليَّة بنَّائي زمان، البروزات الجمالية كثيرة ورائعة، اتِّساع القاعات، النَّوافذ الكثيرة المجدِّدة للهواء، السَّقف العالي، لقد صار بيتك أثريًّا ثمينًا لفرط قدمه، لكن انظر يا صديقي، ألا ترى هذا الشَّرخ؟ وهذا، وذاك، إنَّها شروخ خطيرة في الجدران الأساسيَّة، ستؤدِّي حتمًا إلى سقوط البيت في وقت قريب، وأنت جاري، لك حقوق لديّ، بنيت لك بيتًا حضاريًّا تأمن فيه على سلامتك وسلامة أسرتك، فهلا تفضَّلت بالانتقال إليه في أسرع وقت حتَّى يتم ترميم بيتك ومن ثمَّ تعود إليه إن أحببت؟
سينتقل طبعًا هذا الأخ المهتم بكرامته إلى البيت الجديد وهو يشكر لهذا الجار لطفه وكرمه، إذ نقله وأسرته من الخطر إلى الأمان دون توبيخ ولا مَنٍّ، بل صان إحساسه بكرامته عندما أصرّ على أنَّ ما فعله هو الحق المستحق له كجار، وسأله التفضُّل بقبوله.
العقائد الدِّينية والمذاهب العقائديَّة مبان روحيَّة مُشيَّدة، يرثها المعتقدون آباء عن أجداد، لها من الإعزاز والإجلال في نفوسهم ما يفوق إعزاز وإجلال المباني العينيَّة والأوطان، الأديان تربطهم بالأقدس على الإطلاق، الله جلَّ وعلا، ترسم لهم خرائط حيواتهم، تحدِّد لهم طرائق معيشاتهم، تكشف لهم كيفيَّات نهاياتهم.
هنا يجب على الجيران تنبيه هؤلاء المعتقدون إلى خطورة ما آل إليه فقه معتقدهم، وضرورة الانتقال منه إلى فقه آخر أليق بالعصر، يحقِّق لهم العيش بسلامة وأمن فكريِّين، كي يمارسوا عقائدهم بانفتاح تُوجبه الأديان الإلهيَّة وإن حرَّمته الأفقاه البشريَّة!
لكن الجيران "التنويريِّين" للأسف لا يقلِّون حماقة عن جيرانهم "الأصوليِّين"!
إنَّهم لا يُوجِّهون خطاًبا لائقًا لمُعتقِدي الفقه الخاطئ يدعونهم فيه إلى الانصراف عنه، لا يفعلون ذلك بهدوء ورويَّة وحب، بل يصرخون ويثيرون ضجيجًا، يتلفَّظون بكلام "ماسخ" إن دلَّ على شيء فالكره المظلم الذي لا يمكن أن ينتج تنويرًا!
مثقَّفو التَّنوير سمجون للغاية، يتناولون نقائص الفهم البشريّ للأديان باستعلاء، يمارسون فوقيَّتهم إلى حدود التَّسبب في آلام حادَّة للآخر؛ الأخطر على الإطلاق هو ممارستهم التَّنوير بلمبات ذات شحن ضعيف، لا تتَّصل بمنبع كهربائي قوي، فتجدهم بعد فترة قليلة يسقطون في نفس الظَّلام الفقهي، وإن كان على الطَّرف النَّقيض!
في بوَّابة إلكترونيَّة تُدعى، على ما أذكر، "الحركات الإسلاميَّة" موضوع كبير كتبه أحد "التَّنويريين!" منتقدًا الأزهر لأنَّه "يشارك في هالة تقديس البخاري"!
من حقِّي وضع علامة تعجُّب بالغة الضَّخامة، بحجم برج "القاهرة" لو أمكن.
كأنَّ "الأزهر" ليس قائمًا على قواعد من علم شرعي أصله تقديس هالة "البخاري"!
بيان الإدانة الذي وجَّهه "التَّنويري!" مُعِد هذا الموضوع جاء كالتَّالي: إنَّ المؤسَّسة الدِّينية الرَّسمية، والممثَّلة في "الأزهر" ووزارة "الأوقاف"، من أبرز الجهات التي تنادي بقدسيَّة "البخاري"، وإنَّ أي نقد وهجوم عليه وكتابه يُعد هجومًا على الإسلام، متَّفقين في ذلك مع أكبر تنظيمين إسلاميَّين على الأراضي المصريَّة "الإخوان المسلمين" و"الدَّعوة السَّلفية ".
يرى عمدة مشائخ الإسلام، بعد ثورة 30 يونية المجيدة، المعروف بالشِّيخ "ميزو"!
والمعروف أيضًا بـ"خطيب التَّحرير ومنسِّق حركة أزهريُّون مع الدَّولة المدنيَّة"، حسب ما ورد في هذا الموضوع الذي أثاره "التَّنويري!" إيَّاه، أنَّ صحيح "البخاري" مسخرة.
في مقابل كلمة "مسخرة" كانت هناك ردَّة فعل من قبل المدافعين عن "البخاري" اتَّهمت بدورها الشِّيخ "ميزو"، ومن يسير على دربه، بالسَّفاهة والخروج عن قواعد الإسلام!
لماذا "البخاري" مسخرة لا تستحق التقديس؟!
لأنَّ "التَّنويريين!" يرون في "البخاري" ما يربو على أربعين حديثًا ضعيفًا، ما يُشكِّك في أسطورته ككتاب أحاديث صحيح، ويُشكِّك في نزاهة "البخاري" نفسه الذي ادَّعى صحَّة كل أحاديثه، مع أنَّه جمعها بعد وفاة النَّبي بما يقارب قرنين من الزَّمان!
لنضع تصوُّرًا بسيطًا لكيفيَّة وضع هذا الكتاب كي نرى إن كان يستحق وصفه فعلًا بالـ"مسخرة.
ثمانية عشر عامًا يضرب "البخاري" في الأرض بحثًا عن تابعي الصَّحابة، وتابعي تابعينهم، يجمع منهم الحديث بأصعب شرط، والشَّرط غربال تنقية. تقول الأسطورة إنَّ "البخاري" تمكَّن من جمع ستمائة ألف حديث! سنؤيِّد كلام القائلين بأنَّ هذا العدد خياليّ جدًّا، مرتكزنا في التأييد هو أنَّ العرب هواة مبالغة على كل حال، سنقول إنَّ عُشر هذا العدد هو ما أمكن للبخاري تحصيله، أي ستِّين ألف حديث، عكف عليهم الرُّجل بعمل مؤسَّسي علمي فاستخرج منها ما يقارب الثَّلاثة آلاف حديث فقط وضعهم في صحيحه، ثم لم يكتف بذلك الجهد الشَّاق، بل قَطَّع هذه الثَّلاثة آلاف حديث في أبواب فقهية فيرتفع ترقيم هذه المُقطَّعات مقاربًا للثمانية آلاف، ويبارك كلّ أئمَّة علوم الحديث والجرح والتَّعديل، قديًما وحديثًا، عمله، ليأتي في آخر الزَّمان الشَّيخ "ميزو" ليطلق على كل هذا العمل المضني لفظ "المسخرة"!
هناك كلام عن أربعين حديثًا معلومة يعتريها الضَّعف، أربعين حديثًا من ثلاثة آلاف كافية فعلًا لإطفاء هالة القداسة عن كتاب "البخاري"، الذي هو "في الأول وفي الآخر" تأليفٌ بشريٌّ غير منزل من السَّماء، يُؤخذ منه ويُرد عليه.
لكن هل أربعين حديثًا ضعيفًا معلومة تمنح الحق لناقد هذا الكتاب كي يصفه بـ"المسخرة"؟
هل الخطأ بنسبة واحد على مائة في عمل ضخم قام به رجل بإمكانيَّات القرن التَّاسع الميلادي تجعل من حق "التنويريِّين" وصفه بـ"المسخرة"؟!
هل إزالة "القداسة" عن "البخاري" تعني عدم رفع القبَّعة احترامًا لهذا الجهد الإنساني الضَّخم الذي قام به؟!
هاجت الرُّوح الحرَّة للصَّحافي "التَّنويري!" من فرط حدَّة وتخلُّف ردود العلماء القاسية على وجهة نظر الشَّيخ "ميزو"، وقد وصفته بالسَّفيه مرَّة، ووصفته بالخارج على الإسلام مرَّة أخرى، ولم تهيج روحه المهذَّبة ضد هذا "الشَّيخ" الذي، والحق يُقال، كان البادئ بالسَّفاهة والسَّفالة وقلَّة الأدب.
كيفيَّة غير موضوعيَّة لن تدفع في اتِّجاه إصلاح حقيقي للفهم الدِّيني، ومن ثمَّ الخطاب الدِّيني، بل ستؤدِّي إلى تصاعد الفعل الإرهابي إلى ما هو أقوى وأعنف، تصاعدًا سيكون الفضل الأوَّل، والأخير، في تفجيراته الانشطاريَّة لمثقَّفي تنوير هذا العصر وزعيمهم الشَّيخ "ميزو" شيخ مشائخ زمن "الفشخرا".

إرسال تعليق