هل يُمكن أن يأخذ الرَّاوي الحكمة من شخوص رواياته؟!
هل يُمكن أن يملأ المبدع، الخالق، نقصًا في ذاته، عبر
احترام مفاهيم مخلوقاته التي أوجدها على أوراقه؟!
أجيب، على هذا السُّؤال، وأنا مشحون بالأسى.
للأسف الشَّديد: نعم.
أتأسَّف لأن المُبدع، الخالق، يجب أن يكون مُمتلكًا
للحكمة كُلِّها، أو على الأقل، لنصيب أوفر ممَّا قد يستطيع المخلوق، بطل
الرِّواية، امتلاكه منها؛ فكيف الحال وقد يبدو، في عالم العمل الرِّوائي، أنَّ
المخلوق أكثر حكمة من خالقه؟!
لكنِّي، حين أتأسَّف، فأنا اتأسَّف وقلبي يفيض
بالسَّعادة والفرح، فمبلغ مُراد المُبدع، الخالق، أن يُوجِد الشَّخصيَّة المكتملة،
حتَّى وإن فاقت اكتمال ذاته، فهذا بالأساس، سيشهد له، هو أولًا، بتمام قدرته على
الخلق، وأنَّه المُبدع الفائق.
طفلا، أرى الدُّنيا من حولي، وأفهم منها، فقط، أنَّني
ذاهب الآن إلى الحقول، وبيوت الطِّين اللابدة تحت جذوع النَّخيل الشَّاهقة،
والحداءات التى تُحلق في سماء بالغة الصَّفاء، وساحقة البُعد، والحمير النَّشطة،
والكلاب المُبهجة بنباحها الصدَّاح، والمصرف الذي سأنزل في مائه بجسدي، مع أولاد
أعمامى، ونقبض بأصابعنا الرُّخوة على أسماكه الغرقانة في عنفوانها، والطِّين الذى
سنصنع منه تماثيلنا، عرائس، وبهائم، وجرَّارات زراعيَّة، وطواحين هواء، وبالليل
سنتحلَّق حول جَدَّتنا، أمام البوَّابة الضَّخمة، التي يُمكنها أن تستوعب
"الجمل بما حمل"، في نور القمر، أو على ضوء اللمبة "العويل"
المهتز بدخانه، لتحكي لنا عن الشَّاطر "حسن" وأمِّنا
"الغولة"، و"العفريتة" التي لها أرجل الماعز.
لا أعرف لماذا لم تكن هناك، أبدًا، حكايات لطيفة، غير
مرعبة؟! هل لأنَّ الإنسان، حتَّى وهو مجرَّد طفل، تستهويه سير العالم الآخر،
ويستمتع باستشراف عوالم الموتى، وإن كان الثَّمن ارتعاد جلده، و"فرفطة"
قلبه بالرُّعب؟!
لماذا يا ربِّي يدفن النَّاسُ أعزَّ النَّاس؟!
في قلب الخُضرة، ووهج مراتع الحياة، تموت العصافير،
لمَّا تأتي طائرة رش المبيدات، وتُلقي بحمولتها على أشجار القطن، تموت ببساطة، من
غير أن يشعر بها أحد، ولا حتَّى العصافير الأخرى، ونحن كأطفال، كلنا فرحة بسقوط
العصافير، ندرك الحَيَّ منها، ونفصل، بمنتهى المرح، رءوسها عن أجسادها، نمارس روعة
الحياة، وعلى "الصَّاج"، الذي اسودَّ، من طول وضعه على نيران
"الكوانين"، نشوي العصافير المُغتالة، ثم نأكلها.
لا تترك المبيدات سمك التِّرع، إنِّه يموت في قلب
الحياة، في قلب الماء، ويطفو مقلوبًا، ابيضاض أسفله يصير وهَّاجًا على صفحة
المياه، وعندما تظهر الأسماك الحيَّة، وقد دوَّخها المبيد، نقتنصها قنصنا
للعصافير، لتلقى نفس المصير فوق "الصَّاج" الكئيب، تحترق في ضحكاتنا.
ها هو وجدان الحياة برَّاق بالانتعاش في نجع
"الخمايسة"، والموت يصنع أسطورته بتمكُّن، لقد مات "جلال" في
"أسيوط"، أكله القطار، وحفروا له القبر، وعندما تأخَّر وصول جثمانه،
دفنوا في قبره جثمان أمِّه، التي قضت فور سماعها لخبر موته، وحفروا له قبرًا آخر،
لم يكن له بالأساس.
آخر، كان واقفًا يشهد دفن عمَّتى، ولم يكن يعلم أنَّه،
وفي نفس الوقت من غد، ستجري على جثمانه نفس مراسم عمليَّة الدَّفن التي تجري أمام
عينيه الآن..
بين قبرين، أحدهما لجدِّي الشَّيخ
"عبدالسميع"، والآخر لوالده "عبدالله"، هناك متسع جميل، رماله
ناعمة كالحرير، مكان تآلف معه قلبي، فتمدَّدت فيه، وقلت لنفسي: أنت الآن ميت،
ووحيد، ما الذي يضايقك؟ كل النَّاس تموت، فمت كما يموت النَّاس.
أنا لا أموت كما يموت النّاس، أنا لا أموت فتبقى
الدُّنيا في بهائها، تحتفي بالحياة، إذا أنا متُّ فلن أرضى بأقل من البقاء
فعَّالا، أشغل النَّاس بموتي، كما شغلتهم بحياتي، وإذا كان السَّابقون قد رضوا
بالموت، فأنا لست راضيًا.
لماذا يموت النَّاس؟
ملايين البشر، على امتداد التَّاريخ الإنساني، ماتوا
لأنَّهم استسلموا لفكرة الموت، وآمنوا بقدريَّته، وأنَّه مُحال مواجهته، وأنَّ
الحياة حتمًا مسلوبة، وأنَّ الرُّوح لا بد من أن تهجر الجسد، فعاش النَّاس عبيدًا
لـ"عزرائيل"، يموتون ببساطة، ويحملون على أكتافهم أعزَّ النَّاس، يُلقون
بهم إلى القبور، ثم ينتظرون أعزَّ النَّاس ليحملونهم بدورهم، والسَّاقية دوَّارة.
ـ أنا حّيُّ.
كن منتبهًا، لا تترك ثغرة تقتنصك، عبرها، مراسيل الموت،
وأوَّل النَّجاح هو إدراكك لقوَّة الحياة، كن في ركبها الآمن، واحذر من غفوة
النَّوم، فإنَّه بوَّابة الموت الواسعة، تُدخِل جماله بأحمالها، نم بعين واحدة،
ودع عينًا مستيقظة للمراقبة.
وكن مبدعًا، فالمبدع لا يموت، وإن مات فعلًا، سيعود حتما
للحياة، فهو وَقودها اللازم.
الخلاصة: قَرِّر ألَّا تموت.
فالبشريَّة تبحث الآن في معاملها، تُكوِّن المعادلة،
وترسم خرائط للرُّوح، داخل الجسد، ليس فيها منافذ للهروب، فلا يموت الإنسان،
ويحقِّق خلوده بذاته.
أعتدل من استلقائي بين قبريّ جَديّ، ليس لي مكان هنا،
أنا الحيُّ الذي قرَّر ألَّا يموت.
وأنا بقيت لأكتب أسفاري، وأُبلِّغ رسالتي أنْ: يا أيُّها
الإنسان.. تسلَّح بالثَّورة، واكره الموت كُرهًا حسنًا، وانتزع حياتك، وابذرها
بالأمل، لتحصد بقاءك، فلا تفنى أبدًا.

رائع
ردحذف