مع أنَّها المدينة الَّتي تُمثِّل مسرح أحداث
رواية "ابن خالو"، وقد اهتَمَّ كاتبها، "كريم فريد"، في مواقع
عديدة من روايته، بالإشارة إلى كَيفيَّة نشأة تلك المدينة، والتَّعرُّض لتاريخها
سلبًا وإيجابًا، إِلَّا أنَّه لم يذكر اسمها ولو لمَرَّة واحدة، فبقيت مجهولة
المكان، أقرب للمُتخيَّلة منها إلى الوَاقعيَّة؛ ولا أُظنّ الكاتب نسي وضع اسم
لمدينته، أو تَعسَّف بتجهيلها؛ وإنًّما لهدف لاح في أفق قريحته، رأى استحالة
الوصول إليه لو وضع لمدينته، تلك، اسمًا ما.
تنطلق الرِّواية بحدث فاجع؛ عندما يتَجمَّع
أهالي الشَّارع، وقد تَملَّكهم غضب عارم، تَفجَّر في قلوبهم إثر تحريض مُقدَّس،
أشعل أواره شيخ سَلفيٌّ، "أبو معاذ"، من فوق منبر المسجد؛ حَاضًّا إيَّاهم
على ضرورة معاقبة جارتهم، "عَزَّة سُكَّر"، لحملها سفاحًا من أخيها، "أحمد"،
المعتوه القعيد، الَّذي يسكن معها نفس البيت بعد موت والديهما.
يزحف هؤلاء الغضبى نحو بيت الخطيئة، فيرجمون
المعتوه! المُتَّهم بزنا المحارم، حتَّى أوشك على الموت، لولا استنقذته سَيِّدتان
جارتان. ونسيا رجم "عَزَّة سُكَّر" نفسها!
وكان "نور"، ذي الثَّماني سنوات، الَّصديق
الصَّغير، والحميم، لـ"أحمد" المعتوه، قد أوشك بدوره على المشاركة في رجمه!
غير أنَّه أحجم في اللحظة الأخيرة لدواعي العلاقة الوثيقة بينهما. مع ذلك ظَلَّ "نور"
لا يغفر لنفسه هذا الشُّروع، خَاصَّة وأنَّ "أحمد"، المُضرَج بدمائه،
لمحه وهو يَهمّ برجمه، فيقطع علاقته بـ"نور" إلى أن مات بعد بضعة أسابيع
بتأثير الحادث، فيُقرِّر "نور" العمل على الانتقام من رؤوس القتلة.
ورغم أنَّ "عَزَّة سُكَّر" أعلنت،
مَرَّات، عن هُويَّة من أحبلها سفاحًا، إِلَّا أنَّ أهل الشَّارع لم يكن ليُصدِّقوها؛
فهي تَتَّهم من ليس بالهمل، ولا بالشَّريد، ولا بالمعتوه القعيد، كي يُمكن لصق التُّهمة
به؛ تَتَّهم مكينًا، صاحب سطوة وهيلمان؛ "زين"، ابن الحَاجّ
"راجح"، كبير المنطقة، وسَيِّدها دون منازع.
وكان الحاج "راجح" قد استغل نفوذه
في تمكين السَّلفيّ "أبو معاذ"، ولم يكن بالأمس القريب غير بَلطجيًّا
مجرمًا، لا يجيد قراءةً، ولا كتابةً، إمامًا لمسجد المدينة.
ولأنَّ الأقدار، حين تُنفِذ مشيئتها، لا تلقي
بالًا للأمثال الشَّعبيَّة، فقد ضربت بالمثل الشَّعبيّ الشَّهير "من شابه
أباه فما ظلم" عرض الحائط. وضعت "عَزَّة سُكَّر" حملها، ليتَأكَّد
لأهالي الشَّارع أكذوبة ادِّعائها، وصدق اتَّهامهم لها! إذ وُلِد الطِّفل لا في
جمال أو ذكاء "زين"، وإنما في قبح وغباء خاله الرَّاحل، شبهًا لا مراء
فيه أو لبس؛ فلَقبّوه بـ"ابن خالو".
سافر "نور" مع أبيه،
"راضي"، إلى بلاد الخليج بعد حادثة الرَّجم مباشرة. ذلك الأب المكلوم بشعور
قاس لا يغادره في مَقرٍّ أو رحيل: إنَّ زوجته، "فاتن"، أُمّ
"نور"، لا تُحبّه. ثُمَّ بعد ثمانية أعوام، وقد صار مراهقًا، وفي إحدى
زياراته لـ"مصر"، فَضَّل "نور" البقاء بجوار جَدَّته وأُمّه،
مشحونًا بنفس الشُّعور الَّذي تَأسَّس في قلبه قديمًا: الرَّغبة في الانتقام لشرف
صديقه "أحمد".
وفيما تلفظ جَدَّة "نور" أنفاسها
الأخيرة، على فراش الموت، تبوح له بسِرٍّ عظيم، لتَتوطَّد لديه تلك الرَّغبة القديمة
في الانتقام، فتُمسي رغبة عارمة، جائحة، لا تَحدّها حدود، تجاوزت مُجرَّد الرَّغبة
في الانتقام لشرف صديقه إلى الانتقام لشرفه هو شَخصيًّا!
كان السِرٌّ عظيمًا حَقًّا؛ فـ"ابن
خالو" ليس ابن "عَزَّة سُكَّر" وفقط، وإنِّما شقيق "نور"!
أبوهما واحد، نفسه "زين" ابن الحاج "راجح"، والَّذي، كما نجح
في إغواء "عَزَّة"، نجح في إغواء "فاتن" أيضًا، لكن الأخيرة
وجدت من يعمل على إخفاء فضيحتها، عندما تَدخَّل "راضي"، ابن خالها، بطلب
من والدتها، الجَدَّة، وتَزوَّج "فاتن"، إِلَّا أنَّها لا تَمتنّ له،
ولا تُحبّه، بل تظَلّ فاترة تجاهه حتَّى انقضاء أجلها، بعد عودة "نور"
ووفاة الجَدَّة، بوقت قصير.
يبدأ "نور" في رسم الخطط، وإنشاء
العلاقات، واتِّخاذ السُّبل المُؤدِّية للانتقام من أبيه الحرام، مُستغلًّا أبناء
المنتفعين من جيل الوسط في المدينة، وإعداد أخيه "ابن خالو"، السَّاذج،
المُتخلِّف عَقليًّا، للمشاركة في عملية الانتقام، بالمواكبة مع انفجار ثورة 25 يناير 2011.
تفشل خُطَّة الانتقام.
وتنتهي مخطوطة "كريم فريد".
مدينة "ابن خالو" بلا اسم. وكانت
من قبل إقطاعًا مملوكًا لخواجة بلا اسم! غير أنَّ ثورة واضطرابات عصفت بالخواجة،
فهرب إلى خارج البلاد، ليستولي على إقطاعه صَعيديٌّ يدعى "السُّوهاجي"؛ ثُمَّ
ما إن يموت "السُّوهاجي" حتَّى يصبح صديقه، "العايق"، صاحب
اليد الطُّولى في التَّركة. وبعد أن يٌقتَل الأخير غيلة، يقبض "راجح" على
زمام الأمور، قبل أن يُطلق يد ابنه "زين" في جميع الممارسات التِّجاريَّة،
فيعيث فسادًا.
بقليل من التَّركيز يمكننا الكشف عن السَّبب الَّذي
دعا "كريم فريد" إلى عدم تسمية مدينة روايته؛ إنَّه: الرَّغبة في اللعب بالإسقاط.
إذ لن نحتاج لعميق تَأمُّل كي ندرك أنَّ مدينة "ابن خالو" هي
"مصر"؛ ولا شيء غير "مصر"، فالخواجة الهارب بعد ثورة وقلاقل هو
الملك "فاروق"؛ والرَّئيس "عبدالناصر" هو الصَّعيديّ
"السُّوهاجيّ" خاطف الإقطاع؛ و"العايق" المُغتَال هو الرَّئيس
"السَّادات"، و"راجح"، مع ابنه "زين"، هما الرَّئيس
"مبارك" وابنه "جمال". والشَّيخ "أبو معاذ" هو
الأصُوليَّة الدِّينيَّة الَّتي تلعب للنِّظام، وبالنِّظام. أمَّا "نور"،
و"راضي"، و"عَزَّة"، و"فاتن"، و"ابن
خالو"، و"سارة"، وغيرهم، من شَخصيَّات الرِّواية، هم ضحايا الأنظمة
الفاسدة المتداعية على حكم "مصر"، ومُفجِّرو ثورة يناير.
وهكذا ضُرِبت "ابن خالو"، في مقتل،
بسبب رغبة كاتبها الجائحة في اللعب بالإسقاط دونما انتباه إلى خطورة اللعب به.
فعادة ما يكون للإسقاط سطوة القياد، يَحدّ من الانطلاق، كالرَّسن للأفراس، لا يترك
للشَّخصيَّات الحُريَّة كي تجري على أَعنَّتها إلى مصائرها، إلى غايات أخرى ربما
أرحب، وأوقع، مِمَّا يقودها إليه الإسقاط. على هذا سيقت " ابن خالو" قهرًا،
وتَعسُّفًا، لتحاكي، وتماثل، واقع وطن، تطابقه تمام المطابقة.
عندما تكتب رواية تعتمد الواقع المُجتمعيّ
أساسًا لها فإنَّ في "الإسقاط" سُمٌّ قاتل.
في "ابن خالو" ملامح رواية
الأجيال؛ حيث نطالع جيلًا من الشَّخصيَّات الوليدة يشتبك بجيل من الشَّخصيَّات
المُؤسِّسة، وتأثيرات ونتائج هذا الاشتباك. ولسنا قطعًا ضِدّ هذا الاشتباك،
لكنَّنا ضِدّ سلقه! أي؛ التعامل معه بتسطيح ومباشرة مُخلَّين.
لماذا لم يقم أهالي الشَّارع برجم
"عَزَّة سُكَّر"، مع أنَّها من تطلق الاتِّهامات الصَّريحة تجاه ابن سيد
المنطقة، وليس أخيها المُتخلِّف ذِهنيًّا! وهل يمكن لطفل عمره ثمانية أعوام التَّفكير
بهذا التَّركيز في الانتقام! وما المصلحة الَّتي دفعت بالجَدَّة، وهي تحتضر، إلى
الكشف عن سر خطير لحفيدها، مفاده أنَّ أُمَّه، الَّتي هي ابنتها، قد زُني بها قديمًا،
وأنَّه ابن مزعوم لأب ليس أبيه على الحقيقة؟
إنَّها الأسئلة النَّاجمة عن افتعال شاب معظم
"ابن خالو". وهو الافتعال النَّاتج عن ممارسة "الإسقاط" دونما
حنكة.
ثُمَّ؛ كيف أمكن لضمير "كريم فريد"
الرِّوائيّ أن يستريح لكتابة مشهد استمناء رجل خَمسينيّ دونما التَّقدمة المناسبة
له، والَّتي قد تُؤهِّله ليكون جزءًا حَقيقيًّا من مسرودته، يمكن قبوله وتَفهُّمه؟
إذ لا يمكن استيعاب قيام خَمسينيّ، أو غير خَمسينيّ، بممارسة العادة السِّريَّة،
فجأة، لا لشيء غير محاولة التَّخلُّص من إجهاد ذِهنيّ يعصف به.
وكان يمكن التَّجاوز عن جميع ما سبق بالتَّأويل؛
والادِّعاء بأنَّ المعنى، إذا أُلغِز في عقل القارئ، واضح في بطن الشَّاعر، لولا
أنَّ كتابة "كريم فريد" برُمَّتها وقعت في فَخٍّ يصعب عليها الفكاك منه،
وقد صارت بين دَفَّتي كتاب مطبوع مطروح في الأسواق.
فخ الأسلوب الاختصَاريّ. الَّذي ترك
"ابن خالو" خُطَّة كتابة، أو معالجة مبتسرة، تنتظر تحويلها إلى رواية
حَقيقيَّة.

إرسال تعليق