لم يختف المنديل
القماش، لكن قل وجوده، فلم يعد أحد يستعمله، مع ذلك بقي المنديل ناصعا، رقَّاصا،
في أغنية عبدالعزيز محمود: منديل الحلو.
كلما سمعت هذه
الأغنية جاشت نفسي بالمرارة، فثمة ذكريات حلوة تثار، والذكريات الحلوة اجترارها مر،
وفي "منافي الرب" قتلت الذكريات الحلوة "سعدون"، أقرب شخصيات
الرواية إلى قلبي وروحي وطبيعتي.
وفي ذكرياتي
الحلوة أوضة بصالة وحمام دون مطبخ، شارع ضيق من حي قاهري شعبي، أول بلكونة، على ناصية،
تحتي عربة فول؛ ولم أكن سمعت "منديل الحلو" من قبل، ولم يرشحها أحد
الأصدقاء، هي صادفتني متلبسا بقصة حب مع بنت تشبهها، بنت بلدي، أي: بنت من النوع
البلدي، روحها أبيض هفهاف، شردوحة، ومخلصة.
ومهما تلِف وتدوَّر
يا مصري، بين أصناف الحريم، لا يُعلَى على البلدي. البلدي يؤكل. وإذا قيل: بنت مصرية
جدعة، فالمقصودة مِش بنت التجمع الخامس، ولا بنت الشيخ زايد، ولا بنت أي مَحشر
كومباوندي مُتغرِّب، البنت المقصودة بنت الحسين، والسيدة، وحارات الجمالية،
وعشوائيات فيصل، وكل مكان مفتوح على خلقه.
أُغرمت بمنديل
الحلو، وبالبنت اللي شبهه، فأطلبها على الهاتف، وأشغل الأغنية، تسمع، ويسمع بياع
عربية الفول تحت مني، فيزعق: "علي الصوت يا أستاذ"؛ البنت تسمع صوته،
فتضحك، لكن القلب لا يضحك، الحب حزين بطبعه. مَن قال إن الحب أحلى ما في الوجود
مازوخي، قوام الحب البُعاد، ونماؤه الهجر، وكلما كبر الحب كبر الحزن، حتى يصرع
القلب الحزين. ومَن قال الحب حلو فاقد حاسة التذوق، الحب لا هو حلو، ولا هو ماسخ،
ولا هو حراق، الحب مر، لأنه من جنس الذكريات الحلوة.
ومع أني أضع مصيدة
للذكريات الحلوة، فإن الشوارع تصر تسقيني المر، عندما تسوق سماعة ما، في محل ما،
صوت عبدالعزيز محمود محتشدا بالشوق: منديل الحلو، يا منديله، على دقة قلبي،
بغنيله.
أنا في فيصل، وصوت
البنت اختفى بزواج محتوم، و"منديل الحلو" تُغنَّى في الشوارع على المشاع،
وكان ثلاثتنا، قبل سبع سنوات، متضافرين في غرفة واحدة، في الحي الشعبي القاهري، تحتنا
عربة فول، لا أعرف إن كانت لم تزل هناك، أم دخلت بدورها حظيرة الذكريات المرة.
إرسال تعليق