رسم
أوجست فرانسوا بيار فى العام 1840 لوحته الزيتية "تجارة العبيد"؛ تلك
التجارة التى نشطت عالميا طوال ثلاثة قرون متتالية، بدأت بالقرن السادس عشر وانتهت
مع أواخر القرن التاسع عشر، بعد صراع طويل للجمعيات المناهضة لهذه التجارة البشعة مع
الحكومات الأوروبية الضالعة بها.
فى لوحة
بيار يظهر سطح سفينة مخصصة لنقل العبيد عبر الأطلنطى، من الساحل الإفريقى إلى
الساحل الأمريكى، فى منتصف السطح يجلس التاجر الأبيض مزهوا على كرسيه، مرتديا بذلة
فخمة، بجواره دفتره، مستغرقا بنظرة حالمة فى السماء، سعيدا بتوقعاته للربح القادم
من بيع هؤلاء العبيد الذين بدوا فى اللوحة تائهين مختلطين باللون البنى الداكن،
كأنهم أشباح، بينما الضوء يسقط قليلا على امرأة إفريقية بصدر عار، كما يظهر رجل
أبيض من البحارة يدهس بقدمه إفريقيا ألقاه الإعياء أرضا. يظهر بحار آخر فى عمق
الصورة ضاربا أحدهم بالسوط، بينما ثالث منكبا يمسح بيديه على ظهر إفريقية عارية،
كل ذلك تحت سماء حمراء داكنة تشع الاستبشاع فى روح الرائى، ولعل هذا ما أراده بيار
بالضبط من لوحته هذه التى رسمها فى وقت بدأت هذه التجارة تأخذ طريقها نحو الأفول.
كانت
الأرض الجديدة فى أمريكا تحتاج إلى يد تعمل، مزارع للقطن والقمح والفواكه لا حد لاتساعها، مصانع
لتشكيل المعادن مختلفة الأصناف، وما كان ممكنا استعمال اليد الهندية صاحبة الأرض،
فهذه يد لم يكن بمقدورها سوى حمل السلاح دفاعا عن أوطان احتوتهم منذ بداية ظهور
الإنسان على هذه الأرض، فلم يكن هناك بد من استخدام آخرين ما زالوا يعانوا التخلف
والبداءة ليسهل قيادهم، ولم يكونوا سوى الأفارقة!
ثلاثمائة
عام من التجارة فى الأفارقة، نقلت فيها السفن البرتغالية والإسبانية والإنجليزية والأميريكية
ملايين السود، ربما خمسة عشر مليونا، ربما أكثر، هناك إحصاء يقول إنهم أكثر من
مائة مليون إفريقى!
إذن،
على أقل تقدير، هناك خمسة عشر مليون رواية كان يمكن لهذه الإنسانية أن تقرأها بأسى
وحزن لو أمكن لكل إفريقي مختطف كتابة حكايته المؤلمة، حكاية التحول من إنسان مملوء
بعنفوان الحرية إلى عبد لا يملك من أمر نفسه ولا أبنائه شيئا ولو بحجم شظية.
رواية "كتاب
الزنوج"، هى واحدة من هذه الحكايات المؤلمة، كتبها لورانس هيل، كاتب كندي من
أصل إفريقى، على لسان امرأة زنجية تعذبت بهذه المأساة، اسمها أميناتا مامادو دياللو،
التى تم اختطافها فى منتصف القرن الثامن عشر ليتم بيعها فى أمريكا طفلة لا يزيد
عمرها يومئذ عن إثنى عشر عاما.
كانت تتمتع
بالذكاء، فتعلمت سرا كيف تكتب وتقرأ، كما أنها كانت تجيد توليد النساء، والمعالجة
بالأعشاب، ما مكنها من أن تنال إعجابا خفيا منحه لها البيض، ساعدها على أن تتخلص
تدريجيا من الرق، وتستعيد حريتها، بل تستعين بها لجنة مناهضى تجارة العبيد فى بريطانيا
لمحاولة إقرار قانون يرفض هذه التجارة من مجلس النواب البريطانى، لتكافأ فى
النهاية بدعوة من الملك جورج، ملك بريطانيا، لزيارة قصره احتفاء بجهودها.
بدأت
الرواية بتصوير البيئة الإفريقية البسيطة، غابات وأكواخ فى قرية صغيرة، وحياة
الناس المعتمدة على زراعة نبات الدخن، وصيد الطيور والحيوانات، لتقترب من الصغيرة
أميناتا، التى تعيش فى حنان والديها، وتستمتع بطقوس الحياة فى هذه القرية التى
كانت بمثابة الوطن الكبير بالنسبة لها، وفى الحين الذى كان أبوها مامادو دياللو رجلا
مسلما يمتلك مصحفا، محافظا على الصلوات، يحبه كل أهل القرية لتدينه وثقافته، يعلم
ابنته سرا كتابة بعض الأحرف العربية، وقراءة بعض الأدعية، فإن أمها، سيرا
كوليبالى، كانت أيضا امرأة نابهة، تستطيع
معالجة المرضى بالأعشاب، وتولد النساء.
فى طريق
العودة من إحدى القرى البعيدة، وقد أنتهت الأم وابنتها من توليد إحدى نسائها،
تتعرضان للخطف من قبل تجار العبيد الأفارقة، وبعد مقاومة شرسة تقتل الأم أمام عيني
أميناتا التى يتم اختطافها.
كانت
قريتها قد تعرضت للسطو فى نفس التوقيت من قبل هؤلاء التجار، لذلك، بينما ترفل
حزينة فى قيودها بين صفوف من المُختَطَفين تفاجأ برؤية أبيها بين مجموعة من رجال
قريتها، ينضمون للقافلة وهم يرفلون فى قيودهم أيضا، لكن الوالد ما أن يرى ابنته
أسيرة حتى يثور ثورة عارمة، فيتمكن من التخلص من قيوده لينطلق نحو ابنته محاولا تحريرها،
لكن شهبا صغيرة تنطلق من "عصا النيران"، على حد وصف أميناتا للبندقية،
تخترق صدره فترديه فورا.
تخسر
أميناتا والديها ووطنها فى ساعة سريعة، لتجد نفسها مجبرة تحت قسوة الضرب على المضى
فى الطريق المؤدية إلى الساحل الإفريقى، مستلهمة فى كل مشكلة تقابلها روحى
والديها، تسألهما عن الحل، فتتخيل إجابتيهما وتفعل ما يقولانه.
فى
الرحلة الطويلة، التى توالت فيها الأقمار عليها، تتعرف إلى فتى يقارب سنها، اسمه
تشيكورا، يعمل مع الخاطفين، لكنه يحاول جاهدا تقديم بعض الخدمات لها بعيدا عن
أعينهم، فتنشأ بينهما مودة صغيرة تليق بطفلين.
عندما
تصل قافلة المُختَطَفين أخيرا إلى الساحل الإفريقى، بعد نفوق العديد من أفرادها فى
مشاهد مأساوية، تحملها إحدى السفن المخصصة لنقل العبيد، هذه السفن التى لا حد لوصف
حقارتها وقذارتها التين تؤديان إلى وفاة العديد من هؤلاء المختطفين السود،
والبحارة البيض أيضا!
فى
الوقت الذى كان تشيكورا يستطيع الهرب بعيدا عن التجار البيض، عندما شعر بأنهم
يريدون الغدر به وخطفه كعبد، فضل السفر على السفينة عبدا من أجل أن يبقى بجوار
أميناتا!
فى
الرحلة البحرية الطويلة إلى الشواطئ الأمريكية تسجل الرواية آلاما عظيمة سببها
الإنسان الأبيض للإنسان الإفريقي، فلا ذرة اهتمام بالمختطفين، الذين يشحنون فى قعر
السفن، مما يؤدى إلى وفاتهم فى حالة من بؤس غشيم، ليتقدم البحارة نحو جثثهم
فيقذفون بها إلى مياه المحيط، وليت القذف إلى ماء المحيط يقتصر على الأموات، بل
إنهم يقذفون بالضعفاء منهم أحياءا ليموتوا غرقا لا لشئ سوى اعتبارهم بضاعة كاسدة
لن تدر ربحا، وعبئا زائدا على السفن!
على
الساحل الأمريكى، فى حلقة مزاد، تباع أميناتا لسيد أبيض، يدعى إبيلبى، بينما يباع
تشيكورا لسيد آخر؛ داخل مزرعة إبيلبي تعمل أميناتا فى الاعتناء بحقول النيلة،
وتحضيرها للصباغة، ونظرا لنباهتها تلفت أنظار الموظفين الكبار فى أمريكا من المختصين
بشؤون النيلة.
فى هذه
المزرعة، تقترب أميناتا من امرأة إفريقية كفلت لها رعاية جيدة، إنها جورجيا، التي عاملتها
دائما كأنها أمها، كما تلتقى بتشيكورا، الذى استطاع التسلل من المزرعة البعيدة
التى يعمل فيها ليلتقى بأميناتا، وتكون بينهما زيارات مختلسة على فترات متباعدة
تمتد إلى شهور.
لكن عزة
نفس أميناتا، التى تشعر دائما أنها اختطفت حرة، تستفز مالكها الأبيض، فيغتصبها على
حين غرة، لكن جورجيا تساعدها بالأدوية العشبية على التخلص من آثار هذا السيد
الأبيض، لتتزوج أميناتا من تشيكورا سرا، خلال ذلك يقوم أحد العاملين الملونين فى
المزرعة، اسمه مامد، بتعليمها كيف تقرأ الكتب التى سطرها الرجل الأبيض، وكيف تكتب كلماته.
عندما
تنجب أميناتا ابنها الأول، الذى تسميه مامادو تخليدا لذكرى والدها، يمعن إبيلبى فى
محاولات إذلالها، فيخطف الرضيع ويبيعه لسيد آخر دون علمها، وعندما تكتشف الأمر
تسقط فى دوامة حزن تمتنع معها عن العمل والطعام، مما يجبر أبيلبى على بيعها لسيد
أبيض جديد، إنه سولومون ليندو، يهودى الديانة، فينتقل بها من هذه المزرعة البعيدة
إلى مدينة تشارلز تاون.
يحسن
سولومون وزوجته إلى أميناتا، فلا يتعاملا معها على أنها مجرد عبدة، بل يخبرانها
بأنها ستكون فى وظيفة خادمة، ويخصصان لها مكانا محترما للإقامة، وتحبها السيدة
البيضاء، التى ما أن تحمل ويأتى وقت ولادتها حتى تستعمل أميناتا خبرتها السابقة فى
توليدها بسهولة ويسر.
يتفق سلومون
مع أميناتا على أن تعمل مقابل منحه نسبة من مكاسبها، وتبدو الدنيا وكأنها تشرع في
الابتسام لها، لكن يضرب الجدرى المدينة مما يؤدى إلى وفاة الكثير من الناس، البيض
والزنوج، وإضعاف حال البلد اقتصاديا، فلا تستطيع الدفع لسولومون ليندو، الذى فقد
زوجته وطفله فى هذا الوباء، فيحتد عليها، لكنها تفاجئه بأنه قد قبض منها قديما
أكثر مما بستحق، وتخبره بأنها قد عرفت ما يشينه.
كان
تشيكورا قد واصل البحث عن أميناتا حتى استطاع معرفة مكانها فى تشارلز داون، فاجتمع
بها بعد غياب سنين طويلة ليطلعها على ما أذهلها: إن هذا الرجل اليهودى المدعو
سولومون ليندو أسهم فى مؤامرة اختطاف ابنهما مامادو وبيعه، وأن مامادو قد مات
رضيعا. ثم يذهب تشيكورا عائدا إلى سيده ليغيب سنين أخرى.
عندما
واجهت أميناتا سولومون ليندو بهذا السر ينكسر غضبه، ويشعر بتأنيب الضمير، فيصطحبها
إلى نيويورك محاولا التخفيف عنها.
لم
يغفل حلم العودة إلى أرض الوطن فى إفريقيا لحظة واحدة عن عقل وروح أميناتا، فكانت
فى كل ثنية من ثنيات حياتها التى امتدت فى أمريكا تبحث عن كيفية للعودة إلى
إفريقيا، ومن ثم إلى قريتها البسيطة، لذلك دبرت للهروب من مالكها اليهودى أثناء
رحلتهما فى نيويورك، وبسبب ارتباك مفاجئ ناتج عن مقاومة الأمريكيين الثوار للجيش
البريطانى وللمحافظين، هذا الارتباك الذي نشر الفوضى فى المدينة، ما يضطر معه
سولومون لمغادرة نيويورك مسرعا تاركا خلفة أميناتا دون أن يتمكن من بذل أى محاولة
للعثور عليها.
ولإجادتها
اللغة الإنجليزية قراءة وكتابة يتقرب إليها ووترز، أحد الضباط الإنجليز، ليكلفها
بتسجيل أسماء الزنوج الذين ستحملهم السفن البريطانية على متنها صوب أراض جديدة فى
مملكتها، لكن ليس كعبيد هذه المرة، بل كأحرار، مكافأة لهم لوقوفهم مع الجيش
الإنجليزى ضد الثوار الأمريكيين. كان البريطانيون قد وقعوا مذكرة الانسحاب مع جورج
واشنطون، وأصبح عليهم ترك الأراضى الأمريكية فى خلال أشهر قليلة.
فى هذا
التوقيت يظهر زوجها تشيكورا مرة أخرى بعد غياب أعوام طويلة، ليخبرها بأنه قد تحرر
من مالكه، وأنه سيبقى معها حتى رحيلهما سويا على متن السفن البريطانية. وينمو فى
رحم أميناتا جنين جديد، يجزم تشيكورا أنه بنت.
عندما
يأتى اليوم المقرر لترك أمريكا، بلاد الاستعباد، إلى نوفا سكوشا البريطانية، التى
سيمارسون فيها حريتهم كمهاجرين إليها، يستقل الاثنان السفينة جوزيف، وفى مفارقة
قدرية عجيبة يتم إنزال أميناتا من السفينة، وعندما يحاول تشيكورا النزول معها
تطالبه بمواصلة السفر، وتخبره أنها سترى ما يمكنها فعله للحاق به، لقد أخبرها
القائمون على أمر السفينة بأنها مطلوبة من قبل مالكها الأمريكى، وأنه لا يمكنها
السفر، فاعتقدت لأول وهلة أن مالكها اليهودى سولومون ليندو يستمر في ممارسة
وقاحاته، فها هو يمنعها من تحقيق حلمها بالحرية، كما شارك قديما فى حرمانها من
رضيعها مامادو، ما تسبب فى موته، لكنها فى المحكمة تفاجأ بأن من طالب بها كان
مالكها الأول روبنسون إبيلبى!
فى
مشهد إنسانى جميل داخل المحكمة، يتدخل أحد أصدقاء أميناتا ليصنع لها مفاجأة مبهجة،
حيث يقوم هذا الصديق بإحضار مالكها اليهودى إلى المحكمة، ليقدم أوراقا تثبت ملكيته
لها، فيخلصها من نذالة إبيلبى، الذى تطرده المحكمة، قبل أن يهبها سولومون حريتها، لتسافر
على أول سفينة مقلعة إلى نوفا سكوشا، حالمة بلقاء زوجها تشيكورا هناك، وميلاد
الطفل بينهما.
فى
نوفا سكوشا تظهر مصاعب جديدة، مصاعب تتعلق هذه المرة بمقتضيات الحرية، هذا بخلاف
كونها لم تستطع العثور أبدا على زوجها، رغم كل ذلك لم تتخل عن فكرة تحقيق حلمها
الدائم بالعودة إلى قريتها فى إفريقيا.
بعد
ولادتها لابنتها ماى تظل تعمل بكل طاقتها لمجرد توفير الطعام لها، كما أن العديد
من الأفارقة الذين فوجئوا بالبطالة اضطروا لتقديم خدماتهم بأقل مقابل مادى، ما
أثار غيظ العمال البيض، فبدءوا فى ممارسة عنف قاتل ضد السود.
فى هذه
الأثناء تعلو أصوات الأفارقة مطالبة بحرية حقيقية تسمح لهم بالعودة إلى إفريقيا،
وتتعرف أميناتا على ضابط إنجليزى محترم، يدعى جون كلاركسون، يساعدها بعد فترة على
العودة إلى إفريقيا فعلا، كعضوة فى مجموعة كبيرة من الزنوج الذين سيعملون موظفين
فى إحدى الشركات الإنجليزية التى تقوم بإنشاء مستعمرة هناك.
لم
تتوقف حلقات الألم عن التداعي بعد، فقبل عودتها إلى إفريقيا يشترك رجل أبيض،
ويذرسبون، وزوجته فى خطف ماى، إبنة أميناتا، والسفر بها إلى أمريكا، كما أن الضابط
كلاركسون يخبرها بأنه بعد التقصى والاستعلامات المنهكة علم بأن السفينة جوزيف التى
هاجر تشيكورا على سطحها قد غرقت، ولم ينج منها أحد.
على ظهر
إحدى السفن البريطانية ترحل أميناتا مع مجموعة من السود الأحرار عائدين إلى الوطن
الحلم كموظفين فى المستعمرة البريطانية، لكن الأمور فى هذه المستعمرة لا تجرى كما
تحب أميناتا ورفاقها، فلقد كانت حريتهم صورية بشكل كبير، وكان كل اعتمادهم على
الموظفين البيض فى إدارة حياتهم، هذا بخلاف أن أميناتا لم تكن تحلم بوطن إفريقى يتخذ شكل مستعمرة بريطانية، وإنما
كانت تسعى بكل ذرة من خلاياها خلف الصورة القديمة لقريتها البسيطة.
بالفعل،
تخطط أميناتا من أجل الرحيل إلى قريتها، وبالاتفاق مع أحد تجار الرقيق الأفارقة
تبدأ رحلتها عبر الأدغال نحو قريتها، بعد مرور أسابيع من المشى المضنى، تكتشف أن
تاجر الرقيق يدبر لأسرها وبيعها، لكنها تجاريه وتخدعه وتتمكن من الهرب، لكن إلى
بريطانيا! فالوطن الإفريقي لم يزل موبوءا بخطف الزنوج لبيعهم عبيدا!
تعود أميناتا
لبريطانيا، أنهكها الزمن، صارت سيدة عجوز، لكنها تشترك مع المنظمات المناهضة
لتجارة العبيد، تلقى محاضرات فى كل بريطانيا عن بشاعات هذه التجارة، تصير سيدة مجتمع
مشهورة جدا، حتى أن الملك جورج يوجه لها دعوة لزيارته فى القصر الملكى.
لتنتهى
الرواية ببهجة وحيدة تغمر قلب أميناتا فى آخر عمرها، عندما تعثر عليها ابنتها ماى،
وقد صارت فتاة جميلة، لتبقى بجوارها فى نهاية عمرها المملوء على مدى طوله بالمآسى .
تنتمى
هذه الرواية إلى عالم الروايات المعنية بالسير الذاتية، فأميناتا هنا، حتى لو
اعتبرت شخصية روائية افتراضية، تحكى سيرتها مذ كانت طفلة وحتى شيخوختها، هذه
السيرة الخاصة التى يمكن أن ننظر إليها على أنها تأريخ مجتمعى أيضا، فقد اجتهد
لورانس هيل، كاتب هذه الرواية، فى البحث بين عشرات الوثائق والمخطوطات والكتب ليقدم
لنا صورة واضحة لما كان يجرى فى الجزء الغربي من هذا العالم، من استعباد مريع قام
به الرجل الأبيض ضد المجتمع الأسود بأكمله، رجال ونساء وأطفال، لتقدم الرواية عبر
أبطالها البيض والسود أسبابا خفية أخرى دفعت العالم الأبيض للتمادى فى سبر أغوار
هذه الجريمة؛ فإن من ارتكبوها، ومن كانوا يمنحونها الغطاء السياسي، كان لهم
تبريرهم العجيب، الذى حاولوا به إسكات الضمائر المتألمة، وهو: الأخذ بيد هؤلاء
الزنوج المتخلفين نحو ركب التقدم والحضارة!
أما
الكنيسة، التى كانت ضالعة ضلوعا مباشرا فى هذا الأمر، فقد قدمت تبريرها الدينى أيضا،
وهو: الأخذ بيد هؤلاء الزنوج، الوثنيين أحيانا، والمسلمين أحيانا أخرى، إلى
الهداية المسيحية، ليسلكوا طريفهم نحو المسيح المخلص!
أشارت
سبابة الاتهام، فى هذه الرواية، إلى معتنقى الديانات السماوية الثلاثة: اليهودية،
متمثلة فى شخصية سولومون ليندو، الذى استغل أميناتا إلى أقصى درجة، وتسبب فى
حرمانها من وليدها، رغم أنه بدا فى الرواية أكثر البيض أخلاقا فى تعامله معها، حتى
أنه حاول تعويضها عن نقائصه التى ارتكبها معها بتحريرها من الرق تحريرا كاملا،
استطاعت بسببه مغادرة أمريكا إلى بريطانيا. أما المسيحية فقد تم اتهامها عبر
تصرفات كل البيض الذين مارسوا هذه التجارة بكل عنفوان. كما تم اتهام الإسلام من
خلال التجار الأفارقة أنفسهم، التى صورتهم الرواية وهم يحرصون على أداء الصلوات فى
أوقاتها ثم يهبون لممارسة خطف بنى جلدتهم دونما رحمة.
لم تكن
العبودية قاصرة على الزنوج فقط فى أمريكا، كان هناك شكل آخر من أشكال العبودية
تمثل فى احتلال بريطانيا لأمريكا، وسيطرة المحافظين الإنجليز هناك، مما دعا، أكثر
من مرة داخل الرواية، لارتفاع صوت الثوار الأمريكان بعدم قبولهم لهذه العبودية،
وشنهم لحرب استقلال قادها جورج واشنطون حتى النصر، لكن استعباد الرجل الأبيض
للأبيض مثله لم يتعد مرحلة الاستغلال، لم يصل إلى حد السخرة التى عاناها السود.
هذه الرواية
سفر كبير يمجد قيمة العلم، وكيف أنه من أعظم الأسباب المؤدية إلى الترقى فى حال
الأمن، وإلى النجاة فى حال الخوف، فما كان ممكنا لأميناتا أن تصل إلى حريتها، ثم
إلى هذا التقدير المجتمعى الذى بلغ ذروته باستقبال ملك يريطانيا العظمى لها، إن لم
تكن قد تعلمت كيف تقرأ وتكتب كلمات هذا الرجل الأبيض الذى خطفها، كما أنه نفس
العلم الذى جعلها تفهم مكيدة التاجر الإفريقى الذى كان يدبرها لها كى يعيدها إلى
الاسترقاق من جديد.
ركزت
الرواية على قيمة الصفح وعدم الرغبة فى الانتقام؛ لقد سأل سولومون أميناتا عما إن
كانت تكرهه، فأجابته بأنها لا تريد أن تلوث إنسانيتها بالكره مهما حدث. ولكم أود
لو أن أميناتا قادرة على أن تجيبنى عن سؤالى هذا: هل كانت تفضل لو أنها بقيت مجرد
مواطنة إفريقية فى الأدغال ترعى غنما، وتزرع دخنا، وتربى أطفال، فى ظل زمن رتيب
آمن مطمئن، أم أنها ستفضل ما مرت به من آلام جسدية وروحية نتيجة الاستعباد والفقد،
فى سبيل أن تصبح هذه المرأة الشهيرة التى استقبلها بكل فخر القصر الملكى البريطانى،
قبل أن تصير شخصية روائية معرضة للخلود؟!
كان
للترجمة فى هذه الرواية، التى قام بها المترجم المصرى صلاح صبرى، دورا كبيرا فى
منح القارئ درجة كبيرة من الاستمتاع بالحكاية، وتأمل الأحداث، من غير أن تتسبب
الترجمة فى مضايقته ولو مرة واحدة، وربما ساعد المترجم على نجاحه فى هذه المهمة أن
لورانس هيل، على ما يبدو لي، لم يلجأ إلى تصاوير أدبية كثيرة، ولم يستخدم أسلوبا
صعبا يحاول به اختراق أبعاد جديدة فى الصياغة، كانت الحكاية تستغرقه تماما بحيث لم
يهتم سوى بالسرد الذى ينقل الأحداث نقلا مباشرا، وربما أن هناك نقطة فنية انتبه
لها لورانس هيل استدعته إلى عدم الانصياع إلى فكرة الأساليب المبتكرة، والصياغات
الرصينة، وهى: إن أميناتا مامادو دياللو هى من تكتب قصتها، لا هو، وأميناتا، وإن
كانت قد تعلمت كيف تقرأ وتكتب، ذات ملكة أخاذة فى الفهم والاستيعاب، إلا أنها فى
النهاية لم تدع أنها أديبة تستطيع كتابة رواية تهتم بمثل هذه النظريات الأدبية.
كان
مهما أن تخرج هذه الرواية واقعية جدا.
إرسال تعليق