تنويه: هذه المقالة لا تستهدف تقديم صورة طيِّبة للإرهابيِّين، كما لا تستهدف وضع المزيد من الرتوش لإظهارهم بصورةٍ أكثر شيطانيَّة. إنَّها محاولة نظر فيما يجري بشكل حيادي لإيجاد حل يمكنه القضاء على السَّرطان الإرهابي الذي يستشري حثيثًا، وبنجاح، في كلّ الجسد العالمي رغم الحروب التي تشنّها حكومات الكوكب الأرضي ضدّه، وبمختلف أنواعها: معنويَّة، اقتصادية، استخباراتية. بل وبأقوى الجيوش العسكريَّة النِّظامية!
لن يمكننا التَّعامل بشكل حيادي مع الإرهاب لو لم نقدِّم
تعريفًا واضحًا له، يضعه في إطار ملموس، كي نتمكَّن من الإحاطة به، ومن ثمَّ فحصه
ودراسته، وبالتَّالي فهمه، بغية تحقيق نتائج مفيدة.
ما الإرهاب؟
ضع هذا السُّؤال على أيّ متصفِّح إلكتروني لشبكة
الإنترنت لتجد أنَّ مئات التَّعريفات قد وُضعت كإجابة لهذا السُّؤال، وأنَّ مئات
المتخصِّصين في موضوعه رفضوا اعتبار أيًّا من هذه الإجابات إجابة محكمة!
لكن المقطع المشترك فيها جميعًا ما يصفه بأنَّه فعل عنيف
يرهب مدنيِّين آمنين لفرض واقع ما بالقوَّة.
مقطع مُحدِّد فعلًا لطبيعة الإرهاب، فلماذا يضيفون عليه
تعريفات أخرى تدفع إلى رفضه؟
الإجابة عند الحكومات التي تدفع بجيوشها في مناحي الأرض
ترهب بها الشُّعوب الآمنة لتفرض واقعًا ما بالقوَّة! ولو تمَّ الاتفاق على هذا
المقطع الضَّافي، الوافي، الكافي، تعريفًا للإرهاب لأُدينت هذه الحكومات قبل
الجميع.
هذه الحكومات تريد تعريفًا للأرهاب يُصاغ كالآتي: فعل
عنيف "ذي صبغة إسلاميَّة" يُرهب مدنيِّين آمنين لفرض واقع ما بالقوَّة.
تعريف تآمري قطعًا، الهدف منه ضرب "عصفورين بحجر
واحد"؛ أوَّل عصفور هو: لصق الدَّنيئة بالإسلام. أما الثَّاني فهو: اتِّخاذ
الإرهاب حجَّة ووسيلة لتفتيت بلاده على الأساس العرقي، بحيث لا تجمعهم راية
العقيدة الواحدة، أو حتَّى عَلَم الوطن الواحد، وإنَّما يتفرَّقون تحت رايات
القوميَّات والأعراق، فيتشظَّون إلى هباء منثور.
هذه الحكومات الغربيَّة لم تعر الرُّعب التَّوراتي أدنى
اهتمام، لم تلتفت لبحور الدِّماء التي طلب الرَّب من يهوده سفكها بصفتهم شعبه
المختار! لم تهتز شعرة منها لمشاهد بقر بطون الحوامل، وجزّ رقاب الأطفال، التي
تزخر بها كتب أبناء "إسحاق" المقدَّسة، لا لشيء غير أنَّ الضَّحايا ليسو
من أتباع اليهوه الإسرائيلي، لكن قلوب هذه الحكومات أدماها النَّص القرآني: "وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ
اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ".
ولأننَّا لسنا في معرض الدِّفاع عن نصٍّ قرآنيٍّ كل
تفسيراته تؤكِّد بعده التَّام عن المعني الإرهابي الإجرامي، فسنغادره عائدين إلى
محاولتنا الرَّامية لمناقشة مفهوم الإرهاب، ثمَّ التَّطبيق العملي عليه.
هل جارك محترم؟
لو أنَّه لا يتعدَّى على حقوقك المادِّية، أو المعنويَّة،
خارج بيتك، ولا داخل بيتك، فهو محترم.
ماذا لو أنَّك وجدت في نفسك رغبة، رغم كل احترامات جارك
لك، في أن تؤذيه لأيّ سبب من الأسباب لا يتعلَّق بانتقاصه لأي حق من حقوقك،
وانتقلت رغبتك من مجال الأُمنية إلى حدِّ الفعل؟
في هذه الحالة أنت إرهابيٌّ بما لا يحمل مجالًا للشَّك.
طيِّب نقلب الصُّورة.
جارك يؤذيك معنويًا وماديًّا، يريد إكراهك على مغادرة
بيتك لأغراض توسُّعية تخصُّه، جارك يتمتَّع بعلاقات قويَّة برجال السُّلطة
والقانون، يمارس ضدَّك مستغلًا صكوكًا حكوميَّة استخرجها بطرق غير قانونية ما يُسوِّد
مستقبلك درجة قتل رغبتك في الحياة، لا تجد من يدفع عنك بوائقه، فأخذت سكِّينًا
وعلَّمت بنصله على وجهه، أو حتَّى غرسته في قلبه.
في هذه الحالة هل هناك من يجرؤ على وصفك بالإرهابي؟!
لا أعتقد، لكن يمكن على أسوأ تقدير وصفك بـ"متَّهم
ارتكب جريمة جنائيَّة"، وقد يتمكَّن أحد المحامين من تقديم دوافعك لارتكاب
الجريمة لمحكمة نزيهة، فتمنحك البراءة.
وقد اتُّفق على أنَّ "القاعدة" تنظيم إرهابي
في ظلّ عدم وجود تعريف محدَّد للإرهاب!
حسنا.. ما القاعدة؟
في كتابها: "القاعدة.. نهاية تنظيم أم انطلاق
تنظيمات". أوردت كريستينا هلميتش، الأستاذ المحاضر في العلاقات الدُّولية
بجامعة ردينج في انجلترا، تصوُّرًا لماهية القاعدة يمكن اختصاره في أنَّها كيان
وُجد بلا تخطيط لصدّ ما وُصِّف بالاعتداءات على بلاد الإسلام والمسلمين، وأنَّ هذا
الكيان ليس له ترتيب إداري محدَّد، أو مراكز قيادة في دول العالم، وإنَّما ينتشر
ويتمدَّد على أساس أيديولوجي.
بمعنى أنَّ هناك من الأفراد العاديِّين من يتبنَّى فكر
القاعدة، فيقوم بتنفيذ عمليَّة إرهابيَّة تُنسب فيما بعد إليها.
دارت كلّ فصول هذا الكتاب حول القاعدة منذ نشأتها، مرورًا
بأعتى عمليَّاتها الإرهابيَّة، التي دمَّرت بها برجي التِّجارة العالميَّة، وأحد
جوانب البنتاجون، في قلب أمريكا، بعمليَّة جرت أحداثها التي تقارب الخيال
السينمائي في الثالث من سبتمبر 2003، وما استتبع هذه العملية من تأثيرات عليها،
ومع ذلك لم يتناول، في أيّ فصل من فصوله، الأسباب التي كانت وراء ظهور القاعدة،
وإن تناثر سبب وحيد بين دفَّتي الكتاب لا أعتقد أنه، رغم فعاليته، هو السَّبب الرَّئيس.
رغم أنَّ هذا الفصل الغائب هو أهم فصل!
ملخَّص الاتِّهام الموجَّه للإرهاب بوثيقة الإدانة التي
تعلنها حكومات العالم الغربي، المتحضِّر! وحكومات عالمنا العربي، المتخلف! يشير
إلى أنَّ سبب ظهور هذا الإرهاب أيديولوجيَّة إسلاميَّة متطرِّفة تستهدف العالم
الحر، لا لشيء سوى كراهيَّتها لحضارته المتقدِّمة، القائمة على ديموقراطيَّة لا
يؤمن بها فكرها المتطرِّف، وأنَّ هؤلاء الإرهابيُّون يريدون فرض الإسلام على
العالم بالقوة، واستعادة الخلافة بكل وسائل العنف.
أدلى أسامة بن لادن، الأب الروحي لمن يُتعارف عليهم
بالإرهابيِّين الجهاديِّين، بالعديد من البيانات، وأجرى العديد من
الحوارات، لمراسلي صحف وقنوات منحهم ثقته، وجدت هذه البيانات والحوارات طريقها
للأوساط الإعلاميَّة العالميَّة بشكل سريّ، وباستقراء بعضها عبر فحض يحلِّل أولًا
ويستنتج آخرًا، لا يستنتج أوَّلًا ويحلِّل آخراّ، يمكننا معرفة مدى صحَّة الادِّعاء،
حتَّى يتمّ التَّوصل إلى نتيجة فعَّالة يمكن الاستفادة بها جدِّيًّا للتخلُّص من
هذا الإرهاب الضَّاري.
في ما سُمِّي بـ"إعلان الجهاد"، المؤرَّخ بـ23 أغسطس 1996، قال أسامة: لا يخفى عليكم ما أصاب أهل
الإسلام من ظلم وبغي وعدوان من تحالف اليهود والنَّصارى وأعوانهم، حتَّى أصبحت
دماء المسلمين أرخص الدِّماء، وأموالهم وثرواتهم نهبًا للأعداء، فها هي دماؤهم قد
سُفكت في فلسطين والعراق، وما زالت الصُّور الفظيعة لمجزرة قانا في لبنان عالقة
بالأذهان، وكذلك المجازر في طاجكستان وكشمير والفلبِّين والصُّومال وأريتريا والشِّيشان
والبوسنة والهرسك، حيث جرت مذابح للمسلمين هناك تقشعرّ لها الأبدان، ويهتز من
هولها الوجدان، وذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع، بل وبتآمر واضح من أمريكا
وحلفائها بمنعهم السِّلاح عن المستضعفين هناك تحت ستار الأمم المتَّحدة الظَّالمة،
فانتبه أهل الإسلام إلى أنَّهم الهدف الرَّئيسي لعدوان التَّحالف اليهودي الصَّليبي.
هذا المجتزأ من هذا البيان "الجهادي" يشير
بوضوح إلى أنَّ أسامة بن لادن لم يمارس الفعل الإرهابي على سبيل الهواية
والاستمتاع، أو حتَّى على سبيل الاستعراض. كما لم يتناول المجتزأ، من قريب أو
بعيد، نقدًا لحضارة الغرب وديموقراطيَّتها. أيضًا، لم يعلن الجهاد لنشر الإسلام في
بلاد الكفر. ولا نوَّه لموضوع استعادة الخلافة. بل مارس الفعل الإرهابي كـ"ردّ
فعل" على فعل إرهابي "مُشرعن" تمارسه حكومات الغرب "الوديعة!"،
ضدّ البلاد والقوميَّات المسلمة تحديدًا، حدَّدها هذا المجتزأ بأسمائها، موجهًا
بدوره الإدانة إلى تحالف ثلاثي "يهودي ـ مسيحي ـ أعوانهما"، بقيادة
أمريكا تحديدًا، التي تستخرج من الـUN التَّصاريح اللازمة لممارسة إرهابها، مواصلة
بذلك إحياء فكرة الحروب الصليبيَّة المقدَّسة ضدّ الإسلام.
عداء الحضارة الغربيَّة بكل ما تحمله من مثالب، حسب رؤية
أسامة بن لادن لها، درجة ممارسة الإرهاب العنيف ضدّها غير واردة في عقله من
الأساس، وإنَّما انصبَّ عداؤه على الحكومات التي لا ترغب في علاقة تعايش متكافئة
مع دول العالم الإسلامي، تفرض مفاهيمها عليه بمختلف أصناف الحروب المعنويَّة
والمادِّية، ليبقى متخلِّفا، مجرَّد آبار نفطيَّة تمتص منها طاقتها، وسوق كبيرة
لمنتجاتها التِّقنية والفكريَّة؛ وحكومة أمريكا هي رأس هذه الحكومات.
يقول أسامة في المجتزأ الثَّاني: لقد أعلنَّا الجهاد ضد
حكومة الولايات المتَّحدة لأنَّها حكومة غير عادلة، وتمارس الإجرام، لقد ارتكبت
أفعالًا ظالمة بشعة وإجراميَّة إلى أقصى حد، سواء بأسلوب مباشر، أو من خلال دعم
الاحتلال الإسرائيلي لأرض إسراء الرَّسول، ونعتقد أنَّ الولايات المتَّحدة تتحمَّل
المسؤوليَّة المباشرة عمَّن قُتلوا في فلسطين ولبنان والعراق، إنَّ ذكر الولايات
المتحدة يذكِّرنا قبل كل شيء بهؤلاء الأطفال الأبرياء الذين تقطَّعت أوصالهم
ورؤوسهم، وبُترت أذرعتهم، في الانفجارات التي وقعت مؤخرًّا..
إنَّ أسامة بن لادن ليس كما تصوِّره لنا وسائل إعلام العالم، رجلًا بلا قلب ولا مشاعر، يشرب الدِّماء ويتكرَّع من فرط اللذة، بل ها هو يقدِّم نفسه كإنسان طبيعيّ يعرف مدى قسوة صور الأطفال المقطَّعة رؤوسهم وأوصالهم، تلك التي رسمتها اليد الحالمة لرؤساء هذه الحكومات المتحضِّرة، قبل أن يضطرُّوه لرسم مثلها. كما أنَّه يدين أمريكا بمظلوميِّته كرجل مسلم، لا كرجل عالمي، وإلَّا لذكر في عريضة مبرراته تحمُّل حكومة أمريكا مسؤوليَّتها عن أشهر جريمة إبادة تاريخيَّة، على مدى التَّاريخ الإنساني، في هيروشيما ونجازاكي اليابانيَّتين، وعن أقذر حرب في فيتنام. إنَّه يقدِّم نفسه أيضًا كرجل يعرف حدوده.
يقول في المجتزأ الثَّالث: لقد تخلَّت تلك الحكومة عن
المشاعر الإنسانيَّة، لقد انتهكت كلَّ الحدود وتصرَّفت بأسلوب لم تشهده أيَّة قوَّة،
أو أيَّة إمبرياليَّة في العالم، كان عليهم أن يكونوا حسَّاسين لحقيقة أنَّ قبلة
المسلمين تستثير عواطف جميع العالم الإسلامي، إنَّ صلافة نظام الولايات المتَّحدة
واستكباره، وبسبب خضوعه لليهود، قد وصل إلى درجة احتلال قبلة المسلمين الذين
يتجاوز عددهم مليار شخص.
إنَّه مستمر في التَّأكيد على بعده التَّام عن فكرة عداء
أية حضارة لمجرَّد عدم رضائه عن أسسها الفكريَّة، أو ممارساتها المجتمعيَّة الدَّاخلية،
مضيفًا تبريرًا آخر لفعله الإرهابي، هو أنَّ أمريكا، التي يقودها اللوبي اليهودي،
بوجود قواعد لها في السُّعودية، كسابقة لم تحدث من قبل لأراضي الحرمين الشَّريفين،
قد قامت باحتلالها معنويًّا، وكان ما وصفه بالاحتلال طعنة نجلاء أوغرت قلب أسامة
بن لادن ووجَّهته للفعل الإرهابي كوسيلة مقاومة.
في المجتزأ الرَّابع يقول ابن لادن: إن عصابة الإجرام في
البيت الأبيض تصوِّر الأمر على غير حقيقته، بل يزعم زعيمهم الأحمق المطاع أنَّنا
نحسدهم على طريقة حياتهم، وإنَّما الحقيقة التي يخفيها فرعون العصر أنَّنا نضربهم
بسبب ظلمهم لنا في العالم الإسلامي، وخاصَّة في فلسطين والعراق واحتلالهم بلاد
الحرمين.
في هذا المجتزأ ينكر، بمنتهى الوضوح، ضربه لحضارة العصر
حسدًا لها، بل يضرب طغاتها لأنَّهم يظلمون العالم الإسلامي ويحتلُّون بلاده.
في المجتزأ الخامس يفتي بأن "قتل الأمريكيِّين
وحلفائهم، مدنيِّين وعسكريِّين، فرض عين على كل مسلم في كل بلد متى تيسَّر له ذلك،
حتَّى يتحرَّر المسجد الأقصى والمسجد الحرام من قبضتهم، وحتَّى تخرج جيوشهم من كل
أرض الإسلام، كسيرة الجناح، عاجزة عن تهديد أي مسلم".
حتَّى في هذه الفتوى لا تلوح شبهة مقت الحضارة الغربيَّة
ومقوِّماتها كسبب لقتل الأمريكيِّين كافَّة وحلفائهم؛ كما لا تلوح فكرة نشر
الإسلام في بلادهم كسبب مغاير؛ ولا لإقامة دولة الخلافة سببًا ثالثًا؛ وإنَّما إجازة
قتلهم لتخليص المسجد الأقصى من قبضة اليهود المحتلِّين، ولتحرير بلاد الإسلام من
جيوش أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا المحتلِّين، وحتَّى يعيش المسلم آمنًا من
تهديداتهم.
من كل ما سبق يتَّضح أن إرهاب القاعدة، وما يشابهها، لم
يكن دافعه كره الآخر في المطلق، وإنَّما كره حكوماته المشغولة باستهداف العالم
الإسلامي بكلّ حيلها التَّوسعية الاستغلاليَّة الاحتلاليَّة، وبالتَّالي هو يقوم
فقط بمحاولة استعدال كفَّة الميزان لصالح بلاده الإسلاميَّة المستضعفة.
ولأنَّ ردّ الاعتبار والمظالم الدُّولية فعل يجب على
المؤسَّسات والحكومات الدُّولية القيام به، سلمًا أو حربًا، خاصَّة حكومات هذه الدُّول
الإسلاميَّة الواقع عليها اعتداء المعتدين، فبأي صفة يقوم أسامة بن لادن، وغيره من
القيادات الإرهابيَّة، بمهمَّة ليست من مهامِّه كمواطن مسلم عربي عادي؟
في الطَّريق إلى أحد فنادق حي الدُقِّي بالقاهرة لإجراء
حوار حول روايتي "منافي الرَّب"، وبعد أن تبادلنا السَّلامات والتَّحيات،
وبينما نمضي في شارع التَّحرير المزدحم بالسَّيارات المزعجة، والنَّاس المتبلِّدة،
وأكوام صغيرة من قمامة تضع بصمتها الجمالية في كلّ مكان من هذه المدينة العملاقة،
أبدى رفاييل كورماك إعجابه الشديد بمدينة القاهرة، ومصر عموما!
لم يكن كورماك شخصًا باردًا كما يشاع عن الإنجليز، ولا
ممتلئ صلفًا، بل دافئ الابتسامة، رقيق الكلام، يحسن التعبير بصدق وتدفُّق عما
يعجبه من أشياء، حتَّى إنَّه يرتكب خطيئة المجاملة أحيانًا، فشجَّعتني عفويته على
مباغتته بسؤال لا علاقة له بدافع لقائنا: لماذا تصر بريطانيا على ترتيب المؤامرات
لبلادنا العربيَّة؟
وكانت صحافيَّة ألمانية، لا أتذكَّر اسمها للأسف الشَّديد،
قد طلبت لقائي لمحاورة حول "منافي الرَّب" أيضًا، فجلست معها على كرسيِّين
غير مريحين في مقهى "زهرة البستان" بوسط البلد، امرأة أربعينيَّة طويلة،
هشَّة البنيان، ليست منطلقة مثل رفاييل، وليست دافئة مثله، بل مكلكعة وباردة، حتَّى
أنَّني استُفززت، فباغتها بسؤالي عن هذه الدُّول الأوروبيَّة، ومنها ألمانيا، التي
لا تكف عن حياكة المؤامرات والدَّسائس لبلادنا.
ابتسم رفاييل ابتسامة حقيقية، وقال: يا صديقي. بريطانيا
مشغولة بشؤونها وتحدِّياتها الدَّاخلية لدرجة لا تجد معها وقتًا لترتيب مؤامرات ضدّ
أحد.
ابتسمت الصَّحافية الألمانيَّة ابتسامة باردة وقالت:
بصفتي مواطنة ألمانيَّة أقول لك إنَّنا مشغولون دائمًا بالتُّكنولوجيا والعلوم
والفنون، ليس لدينا وقت نضيّعه في هذه الأشياء، لقد كانت لنا تجربة ليست لطيفة تعلَّمنا
منها الكثير، وأعتقد أنَّ أوروبَّا تعلَّمت منها أيضًا.
الحقيقة أن إجابتيهما، والنَّبرة الواثقة التي يجيبان
بها، يحضًّان المرء على إعادة التَّفكير في طريقة تعاطيه مع سياسة الغرب، لماذا
نحن هنا، في الشَّرق، مصرُّون على أنَّ الغرب يتآمر ضدَّنا؟ هل نفكِّر بهذه الطَّريقة
الشِّريرة لأنَّنا بالأساس شعوب حُكمت طوال الوقت بأنظمة لا تتمكَّن من الصُّعود
إلى الحكم إلَّا بتدبير الدَّسائس؟ هل لأنَّ هذه الأنظمة نفسها لا يفتأ يتَّهم
بعضها بعضًا بالعمالة للغير عند أي بادرة خلاف فيما بينها؟ فصارت نظرية المؤامرة
تكوينة من تكوينات جينات عقولنا، تلوح فورًا كدافع خلف كل تصرُّف، مهما كان هذا
التَّصرف مخلصًا وبريئًا!
أتخيَّل رفاييل والصَّحفية الألمانيَّة وهما يهزَّان
رأسيهما موافقة، وبسمة ترسمها شفاههما، يؤكِّدان على صحَّة ما وجَّها عقلي إلى
استنتاجه، لذلك سأستمر في ممارسة حسن النيَّة، وسأعتبرهما من نوعيَّة هؤلاء المثقَّفين
التي تعج بها الأوطان في كل مكان، الذين يظنُّون دائمًا أنَّ بلادهم منكبَّة على
مشاكلها الدَّاخلية، مهتمَّة باقتصادها، لا تُولي اهتمامًا بسياسات ما حولها من
دول، طالما أنَّها سياسات ليست عدائيَّة؛ وحتَّي مصر، أو أي قطر عربي، لا يخلو من
هذا الصِّنف البريء، بل قد يعج بنوعيَّة أكثر براءة، تلك التي تهوى جلد الذَّات،
وصبّ كلّ النَّقائص على النَّفس، في الوقت الذي تهيم بالآخر حبًا وتقديرًا، تربت
عليه حنانًا وامتنانًا، تسبغ عليه من كل صفات الكمال!
ها أنا حسن النيَّة، وسأقر بأنَّه لا مؤامرات دوليَّة
هنا أو هناك، وأنَّ الحروب التي لا تنطفئ جمرتها في مختلف انحاء العالم، على مرّ
التَّاريخ، وفي الحاضر المعاصر، إنَّما هي حروب تشنّها الدُّول والإمبراطوريات
الكبرى لتحقيق أهداف نبيلة تحت شعارات مختلفة، مثل: إخراج الأمم من الهمجية إلى
التَّحضر. أو: هداية الدول الديكتاتورية إلى الديموقراطية.
أعمارنا قصيرة، لم نعش عصر الإمبراطوريَّة اليونانيَّة العظيمة، وتوسُّعات الإسكندر المقدوني، بمشورة الفلاسفة، لنشر حضارة هذه الإمبراطوريَّة في أنحاء العالم المتخلِّف كي يستضيء، لم نعش زمن حروب نبوخذ نصَّر التي قامت على نفس الأساس، كما لم نكن حاضرين حروبًا قادها عرب شبه الجزيرة العربيَّة هيَّجتها تلك الرَّغبة في نشر الإسلام، واستنقاذ الأمم من ظلام الكفر إلى نور الإيمان، كما لم نحضر حروب أوروبَّا الصَّليبية التي نهضت لاستخلاص مدينة الله ومهد الكنيسة من يد الأجلاف المسلمين أعوان الشَّيطان! كل هذه الحروب أخبرنا عنها التَّاريخ، حتَّى قُدِّر لنا معايشة سياسات الدُّول القويَّة في عصرنا الحاضر، لنرى التَّاريخ حاضرًا طازجًا، فنشاهد الخدعة رأي العين، لا بإخبار الكتب.
من منَّا لم تصك أذنيه، عبر الرَّاديو أو التِّلفاز،
مطالبة أمريكا وأوروبَّا الحكَّام العرب بتحقيق الدِّيموقراطية لشعوبهم؟ ومن منَّا
لم ير في ذات الوقت مئة يد ممدودة بمساعدات أمريكيَّة وأوروبيَّة لهؤلاء الحكَّام كي يُرسِّخوا
أنظمتهم المستبدَّة أكثر وأكثر؟ مع ذلك لا يغفر هؤلاء الحكَّام العتاة لمسانديهم
مطالباتهم العلنيَّة المحرجة لهم، الخاصَّة بتحقيق الدِّيموقراطية، فيقرِّرون
بدورهم إحراج أمريكا وهذه الدُّول الأوروبيَّة التي تقأقئ على قأقآتها.
يقومون بإجراء إنتخابات نزيهة، وهو الاستحقاق الأساسي في
الفعل الدِّيموقراطي، فيفوز الإسلاميُّون؛ عندما يفوز الإسلاميُّون تنسى أمريكا
وأوروبَّا كلامهما عن الدِّيموقراطية، فيتدخَّلا بكل السُّبل القميئة لإفشال نتائج
الانتخابات، تدبِّران الدَّسائس والمكائد لإزاحة الإسلاميِّين عن ممارسة حقوقهم
السِّياسية التي اكتسبوها بالانتخابات، لا بالسِّلاح والإرهاب، ولا يهدأ لهما بال
حتَّى تسقطاهم فعلًا. حدث هذا في فلسطين، والجزائر، ومؤخرا مصر، ثم لا تنفتح
أفواههم بعد ذلك بأي كلام عن أي ديموقراطيَّة! لتكون النَّتيجة الحتميَّة هي تصرُّف
المظلومين سياسيًّا تصرُّفات عنيفة أُلجِئوا إليها، تنشق حماس بغزَّة، تعاني
الجزائر من انشقاق مجتمعي، موار يئز في القلب المصري.
تجارب المحتلِّين مع المتمسِّكين بالفكرة الإسلاميِّة
صعبة، من ثمَّ يفضِّلون اللعبة قوميَّة، لا عقائديَّة، فعار إهانة الأرض لا يملأ
الإنسان بالغضب كما يملأه عار إهانة الدِّين، الأرض لا تحضّ الإنسان على الجهاد ضد
المحتلِّين كما يحضّه الدِّين، العلمانيُّون لا يفرق معهم كثيرًا الذَّوبان في أيّ
ثقافة طالما أنَّها الثَّقافة الأقوى، بالتَّالي يمكن للأرض أن تصير تابعًا للمحتلِّين
حتَّى وإن كانت تحت سيادة وطنيَّة! بينما الإسلاميُّون يتمسَّكون بثقافتهم حدّ التَّشبُّه
بأسلاف عاشوا منذ مئات القرون، مجرَّد تغيير الثَّقافة يعتبرونه احتلالًا، يقاتلون
عن أي أرض إسلاميَّة في أي مكان من العالم بمزاج عال معتقدين أنَّهم فائزون في كل
الأحوال، إمَّا النَّصر أو الشَّهادة، فتصعب مستلزمات الاستيطان بالنِّسبة للمحتلِّين
إلى درجة لا تطاق، فينهزمون.
لذلك على الإسلاميِّين أن يظلُّوا خارج ساحة اللعب بإرادتهم،
أو رغم أنوفهم.
لكن هل الدُّول الغربيَّة، غير الإسلاميَّة، هي فقط من
تسعى لاستبعاد الإسلاميِّين، أم أنَّ بعض الدُّول العربيَّة، الإسلاميَّة، تسعى
نفس المسعى؟
وإذا كانت تسعى نفس المسعى، فلماذا؟
يستغل الحاكم، الدِّيكتاتور، ما هو مُقدَّس لتحقيق ما هو
مُدنَّس، فيضع الله جل وعلا صانعًا للألعاب في الملاعب السِّياسية، يضبط بوجوده التَّوازن
المطلوب داخل دولته، أو مملكته، أو إمارته، يسجِّل لصالحه أهدافًا مهمَّة في أوقات
بالغة الصُّعوبة!
شرقنا المتوسِّط مستنقع يذخر بالعديد من الحكَّام الطُّغاة،
ومُستنبَع الوجود الإلهي المتفاعل مع الإنسان عبر الكتب والرُّسل، وأينما تلازم
الحاكم الطَّاغية مع الله ضاع شعباهما، فالله طيِّب بينما الحاكم الدِّيكتاتور
خبيث، الطَّيب يعفّ عن استخدام الخبيث، بينما الخبيث يسعى حثيثًا لاستخدام الطَّيب،
ما ينتج عنه صيرورة السَّاحة السِّياسية الشَّرق متوسِّطية ملعبًا تدور فيه أقوى
أوسخ المباريات السِّياسية في العالم؛ كيف لا تكون كذلك والـ"بلاي ميكر"
المُستخدم هو الله نفسه؟!
شعوب الدُّول الشَّرق متوسِّطية، العربيَّة بالخصوص،
مسلمة، قد تأتي بأفعال الكفر لكنَّها تعشق إسلامها حدّ الاستشهاد في سبيله، الدُّول
تقوم على شعوب، الأنظمة تقوم على دول، الطُّغاة يقومون على أنظمة شموليَّة مستبدَّة،
النِّظام الشُّمولي في دول شرق المتوسِّط يقتات على الدِّين الذي تعشقه شعوبها،
لذلك تحرص هذه الأنظمة الفاسدة على وضع دساتيرها مُضمَّنة بمواد تؤكِّد على أنَّ
عقيدتها الإسلام، وأنَّ قوانينها مستخرجة من روح الإسلام، في حين أنَّ العقيدة
الحقيقيَّة للنِّظام أبعد ما تكون عن الإسلام، أبعد لدرجة عدم ممانعته في التَّحالف
مع أعداء الإسلام ضد المسلمين في أي مكان، طالما أدَّى التَّحالف إلى الالتصاق
لأطول مدَّة بكرسي العرش، وتبريراته لهذا التَّحالف هي نفس تبريرات أعداء الإسلام:
إنَّه ضد الإسلام المتطرِّف، وضد الإرهابيِّين.
لكن هذه الأنظمة تعلم أنَّ شعوبها تنقاد أسلس باسم الدِّين،
يتم استعباطها بغباوة باسم الله، بهذين الاسمَين يتم حلبها إلى آخر قطرة دون اعتراض ذي بال،
وقصّ أصوافها، وأكل لحومها، بينما تدندن بألحان الصبر، وتوجيهها إلى ما يحب النِّظام
الحاكم ويرضى بلا أي نبرة سخط منها.
ولأنَّ شعوبنا دينيَّة، وبينما تعلن الأبواق الإعلاميَّة
ليل نهار رفض الأنظمة الحاكمة لأي تعامل من قبل المعارضين السِّياسيين لاستغلال
الدِّين، تنشط حكومات هذه الأنظمة إلى تقديم منتج ديني عادة ما يكون بالغ الرَّداءة
إذا قارنَّاه بالمنتج الدِّيني الذي تقدِّمه مصانع القطاع السَّلفي الخاص! فالإسلام
الحكومي مدجَّن إلى أقصى مدى، مائع، دلع، يمكن فيه للشَّيخ أن يُطلق على القتيل
اليهودي لقب شهيد لموافقات سياسيَّة! يمكنه الفتيا بجواز حصار المسلم المصري
للمسلم الفلسطيني في غزة لصالح الإسرائيلي الصُّهيوني المحتل! يبيح للجيوش المسلمة
تقديم يد العون لجيوش الغرب المسيحيَّة السَّاعية إلى تدمير الجيش العراقي المسلم،
يبارك الموافقات العربيَّة الصُّهونية ضد منظَّمتين مسلمتين مقاومتين كحماس وحزب
الله، لا يهمس بنبسة اعتراض واحدة ضد الحكَّام المسلمين الذين يواصلون الفرجة على
العتاد اليهودي وهو يواصل دك ديار المسلمين في فلسطين لشهر كامل، يُقتل النِّساء
والشُّيوخ والأطفال دون أي محاولة جادَّة وحقيقيَّة لوقف هذا العدوان! كما لا يجد
بعض المشايخ الحكوميِّين حرجًا في حضور حفلات الموسيقى والرَّقص والغناء مع رأس
النِّظام في المناسبات الوطنيَّة، ويمكنه إجازة مصافحة النِّساء ولمس الأجنبيَّات!
لا يعترض على الاختلاط بين الجنسين، وقد يخرج منهم من يسير مع السَّائرين في طرق
إباحة شرب الخمر!
أمَّا الإسلام الذي يقدِّمه القطاع السَّلفي الخاص، فهو
إسلام يشفي صدور قوم مستضعفين، إذ أنَّه واضح إلى أقصى درجة، شرس، لاذع، يعلن رفضه
للكيان الصهيوني، وأنَّه إلى زوال مهما بلغ من قوَّة، يرفض المظالم الدُّولية التي تُرتكب
في حقِّ الإسلام وبلاده، لا يجيز التَّحالف مع غير المسلمين ضد المسلمين مهما بلغ
حد جرم هؤلاء المسلمين، يراقب السَّاحة الدُّولية، له طموحات حضاراتيَّة مبنيَّة
على حضارته التَّاريخية، يؤمن بأنَّ استعادة المجد الإسلامي لن تكون في اتِّباع
الأفكار الغربيَّة، خاصَّة وأنَّ كل معارك الغرب الفكريَّة موجَّهة بالأساس إلى
الإسلام، وإنَّما في اتِّباع نفس النَّهج المحمَّدي الذي حوَّل قبائل وعشائر
متناثرة في صحراء نجد، لا حول لها ولا تأثير على مدى التَّاريخ الإنساني الطَّويل،
إلى دولة هائلة ابتلعت الفرس والرُّوم في وقت واحد، فتحت أربعة أخماس العالم في
أقل من مائة عام، كادت تجعل من البحر الأبيض المتوسِّط بحيرة إسلاميَّة، النَّهج
القائم على إخلاص التَّوحيد لله، إعلاء كلمة الإسلام، المسلم للمسلم كالبنيان
المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، عدم ترك الجهاد الذي ما تركته أمَّة حتَّى سقطت في هوَّة
الذُّل، يحرِّمون شرب الخمر، المراقص، الغناء، لا يبيحون اختلاط الرِّجال بالنِّساء،
يرون ضرورة إقامة الحدود الإسلاميَّة على العصاة بدءًا من إتيانهم الزِّنى وانتهاء
بترك الصَّلاة.
ومهما أعلنت الشُّعوب المسلمة في وسائل الإعلان رفضها
للإسلاميِّين المتشدِّدين، اعتراضًا على ما ورد في آخر أربع سطور من صفات منتجهم،
والتي تشعر هذه الشُّعوب بسببها أنَّها ستكون خاضعة لرقابة الدِّينيين الخانقة، إلَّا
أنَّها تحمل في قلوبها كلّ الودّ والإعزاز والتَّقدير للمنتج الأصولي المقاوِم
سياسيًّا على المستوى العالمي. ها هي كريستينا هيلميتش، تؤكِّد في كتابها ما نرمي
إليه فتقول في الفصل الرَّابع منه: إنَّ الكثير من منطق بن لادن يلقى القبول على
نطاق واسع، ويتردَّد أصداؤه في أنحاء العالم الإسلامي. يظهر في مسح أجراه مركز Pew للتَّوجهات
الدُّولية والصَّادر في يولية 2005 أنَّ عددًا من المسلمين يثير الدَّهشة يثقون
في سلوك بن لادن الخاص بالشُّؤون العالميَّة، ففيما بلغ معدل دعم بن لادن في
المغرب 26%، وأندونيسيا 37%، فقد بلغ في
باكستان 51%، كما ارتفع دعم القاعدة في الأردن من 55% إلى 60%". وبالتَّأكيد هناك من لم يُلق برأيه
صراحة في هذا الاستبيان خوفًا من أن يكون شركًا من الشِّراك التي تستخدمها أجهزة
أمن الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد، وإلَّا فإنَّ هذه النِّسب كانت قد ارتفعت عن
هذا المعدَّل كثيرًا.
إذن، تستنبط بعض الأنظمة الحاكمة في بلادنا دينًا إسلاميًّا
مخفَّفًا تستتر خلفه، تداري به عوراتها المتمثِّلة في سقوطها المهين، كونها رضيت
بوضعها كأدوات تستغلّها الدُّول الكبرى في تحقيق أهدافها داخل بلاد العرب
والإسلام، لتبقى في عروش الحكم تمارس سلبها ونهبها لقطعان الشُّعوب. فلأيّ سبب
تتمسَّك هذه الأنظمة بالحكم، طالما لا تحقِّق أيّ تقدُّم لبلادها ومواطنيها، إن لم
يكن لأهداف شخصيَّة كالإثراء والتَّسلط والهيمنة على المواطنين إلى الأبد؟
حارب محمَّد علي جيوش الدَّولة العثمانيَّة، انتصر عليها
في مواقع كثيرة، كاد يخترق حدودها الأصيلة في الأناضول، قُتل في هذه الحروب الآلاف
من الجنود المصريِّين، أُهدرت أموال لا تُحصى من ضرائب فُرضت عنوة على الشَّعب
المصري لتجهيز المؤن والعتاد، كل ذلك كي يتمكَّن محمَّد علي من فرض أمر واقع على
السُّلطان محمود العثماني.
ما هو هذا الأمر الجلل الذي سعى محمَّد علي إلى فرضه بكل هذه الحروب؟
ـ توريث ذرِّيته من
بعده حكم ولاية مصر والشَّام!
لمثل هذه الأمور يعمل العديد من القائمين على رؤوس
الأنظمة في شرقنا المتوسِّط، بينما يعلن الإسلاميُّون أهدافًا كبرى، قبلنا بها، أم
لم نقبل، إلَّا أنَّها تمثِّل بالفعل أهدافًا كبرى، أهمُّها الوحدة الإسلاميَّة
لاستعادة الوضع الرِّيادي لحضارة الإسلام، من ثمَّ تقديم صورة مشرقة للإسلام السِّياسي
الذي سادت حضارته العالم لألف سنة تقريبًا، كانت دولته قبلة الباحثين عن العلم
والتَّقدم في جميع المجالات، بدءًا من علوم الكلام وحتَّى العلوم التَّطبيقيَّة،
كأفضل وسيلة لنشر الإسلام ذاته بين شعوب الأرض.
إنَّ أهداف هذا البعض من النُّظم الحاكمة لا تلتقي أبدًا
وأهداف الإسلاميِّين السِّياسيين، لذلك ينتج الصِّراع الذي عادة ما ينتهى لصالح
الإسلاميِّين بالممارسة الدِّيموقراطية والانتخابات، ليسارع التَّحالف الوثيق بين
دول الغرب الرَّافضة لفكرة الإسلام السِّياسي، والأنظمة الاستبداديَّة الدَّاخلية الرَّافضة،
أيضًا، لفكرة الإسلام السِّياسي، لتدبير المؤامرات التي تنتهي بتحطيم لعبة الدِّيموقراطية،
والدَّفع بالإسلاميِّين الفائزين إلى الفراغ، قبل الزَّج بهم إلى المعتقلات.
في المعتقلات ظلم وظلام، الشَّر نبتهما، الاضطهاد يمزِّق
نياط القلوب، نهش الفرصة من يد صاحبها فعل غادر يحض على الغدر، يبقى الإسلاميُّون
داخل المعتقلات يجترُّون هزائمهم غير الحقيقيَّة، التي تتحقَّق بمساعدة شعوب يسهل
لأي مذيع في برنامج تليفزيوني غسل أدمغتها في ربع ساعة، لتكون النَّتيجة ازدياد
كفر الإسلاميِّين بالسِّياسة، والتَّوجه لحمل السِّلاح، يرفعونه في وجه الكيانات
الثَّلاثة التي تصر على عدم منحهم الحقّ في استغلال استحقاقاتهم الانتخابيَّة،
وهي: الدُّول الغربيَّة، وبالخصوص الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. الأنظمة الحاكمة
في هذه الدُّول العربيَّة. الشُّعوب العربيَّة التي يقرطسها المذيع "الأمنجي"،
أو المذيعة "الأمنجية"، في ربع ساعة.
معلوم أنَّ الخلاص من الإرهاب لن يكون أبدًا بتجييش
الجيوش، وإبرام التَّحالفات الدُّولية، فنظرة على الأحداث المعاصرة تؤكِّد على أنَّ
الإرهاب يستفحل كلَّما تأجَّج أوار الحرب، وإنَّما يتحقَّق الخلاص بطريقة أسهل
كثيرًا من إشعال فتائل الحروب، إنَّها ممارسة الدِّيموقراطية في بلادنا، واحترام
خطوات ممارساتها، مع عدم تدخُّل الدُّول الأخرى في شؤوننا الدَّاخلية، ليفز
الإسلاميُّون، ولنتحوَّل إلى معارضة سياسيَّة، إذ يمكن تأخير المؤامرات ضدّهم والتَّحالف
مع الدُّول الخارجية لإسقاطهم عندما نراهم يركلون اللعبة الدِّيموقراطية لصالح أي
استبداد إسلامي يلوح في الأفق.
هذا هو الحل الوحيد للمسألة الإرهابيَّة، مع ذلك سيبقى الحل
الذي لن يتم اللجوء إليه، لأنَّه لن يقضي على الإرهاب فقط، بل سيقضي أيضًا على هذه
الأنظمة الشَّرق أوسطيَّة الدِّيكتاتورية نفسها، ويكوي في ذات الوقت أيادي
الحكومات الغربيَّة التي عشقت أصابعها اللعب في سياساتنا الدَّاخلية الحسَّاسة!
متى يحصل المواطن العربي على الوعي الكفيل بحمايته من "ربع
ساعة غسيل مخ" ليدفع كلَّ الأمور السِّياسية باتِّجاه سعادته هو بالخصوص في
مستقبل الزمان، بعيدًا عن أي إرهاب، دولي "مُشرعن" أو أصولي
"مسرطن"؟

إرسال تعليق