لا شَكّ في أنَّ بعضًا من الرِّوائيِّين العرب قد شَيَّدوا أعمالًا أَدبيَّة عظيمة سيظهر أثرها الفَعَّال في المظاهرة الإِبداعيَّة الإِنسانيَّة العَالميَّة بمرور الوقت؛ أحدها رواية "فساد الأمكنة"، المسرودة التُّحفة للمصري صبري موسى، العابرة للأزمنة بثقة قارب شُراعيٍّ نِيليٍّ، أينما تهادى من النَّهر لقي إعجاب ناظريه، ومستخدميه.
قد يعتمد غيري أسبابًا عديدة رفعت هذه الرِّواية إلى ذروة اللياقة الإِبداعيَّة، كاللغة الرَّخيمة المتضافرة مع الأحداث ذات الطَّابع الغَرائبيِّ المثير بأسلوب هَيَّأ لسردها الدُّراميّ التَّمتُّع بإِمكانيَّات عددٍ من الفنون الأخرى، كالشِّعر والنَّحت والرَّسم، وغيرها من مختلف التَّشكيليَّات. وربما جاء سَبقُها إلى التَّناول الرِّوائيِّ للصَّحراء سببًا مُهمًّا أيضًا. لكنِّي، بالإضافة إلى كُلِّ هذه الأسباب، أعتمد سببًا أَظنُّه الأوجه رغم غرابته، هو: قدرة هذه الرِّواية على المناورة برشاقة لإلهاء قارئها عن عيبها الخطير، ونجاحها السَّاحق في هذه المُهمَّة. لذلك سندلف إلى "فساد الأمكنة" مُخفِّفين الوطء، نمشي الهوينى، بإكبار وإجلال يَستحقّهما إنشاؤها المكين.
إنَّه "نيكولا"، الشَّخصيَّة الرَّئيسة للرِّواية، القُوقازيُّ المهاجر من روسيا إلى تركيا طفلًا بصحبة والديه، لينمو ويَشبّ هناك، قبل مغادرتها، وحيدًا، إلى إيطاليا، حيث يَتعرَّف على "إيليا"، إبنة صاحب المطعم الذى عمل فيه، فيُحبّها ويَتزوّجها، لينجب منها "إيليا" الصَّغيرة، قبل تركهما مواصلًا ترحاله، وحيدًا، ليستقر بمصر، في بقعة صَحراويَّة قَصيَّة من أراضيها الجَنوبيَّة المشارفة لساحل البحر الأحمر، يقبع عليها جبل الدَّرهيب فاتحًا بطنه لأعمال المناجم التي تنخر أعماقه بلا هوادة ولا رحمة.
"نيكولا"، وابنته "إيليا"، وجبل الدَّرهيب، أَثافيّ الرِّواية الثَّلاثة التي تَتأجَّج فيما بينها نيران حبكتها، وقد ارتكزت على رؤوس هذه الأثافي آنية طهو الفكرة، تنضج بصبر.
لا تستقيم الرِّواية، أَيّ رواية، دون إجراء العديد من المناورات البِنائيَّة. ويَظلّ مدخل الرِّواية، أَيّ رواية، هو ميدان مناورتها السَّرديَّة الأهم والأخطر، فإِمَّا تَمكَّن السَّارد من القبض على تلابيب قارئه فلا ينفلت منه إِلَّا بنقطة الانتهاء، وإِمَّا فَرَّ هاربًا يلعن الرِّواية ولَمَّا يقرأ منها غير أسطر قليلة! وقد حكى لي أحد الكُتَّاب، وعهدة القول عليه، إنَّه سأل الأستاذ "نجيب محفوظ" عن كَيفيَّة انتقاء رواية ما لقراءتها، فنصحه بالنَّظر في صفحة، أو صفحتين، من مدخلها، إلَّم يجد لغة، ولا أسلوبًا، ولا طرحًا، فليفر منها فرار المرء من الجمل الأجرب. فقد كان الأستاذ، رحمه الله، يرى أنَّ العمر قصير في حين هناك من الكتب، والرِّوايات، ما يستأهل إنفاق الجهد والوقت.
هذا هو مدخل "فساد الأمكنة"، أي أَوَّل سطورها: "لو أُتيح للملمح أن يكون مَرئيًّا لطائر يُحلِّق عاليًا، محاذرًا في دورانه المغرور أن تصطدم رأسه المُريَّشة بقمم الصُّخور ونتوءاتها، لرأى الدَّرهيب هلالًا عظيم الحجم، لا بد أنَّه قد هوى من مكانه بالسَّماء في زمن ما، وجثم على الأرض منهارًا مُتحجِّرًا، يحتضن بذراعيه الضَّخمتين الهِلاليَّتين شبه واد غير ذي زرع، أشجاره نتوءات صَخريَّة وتجاويف، أحدثتها الرِّياح وعوامل التَّعرية خلال آلاف السِّنين. ولعل ذلك الطَّائر المرتفع لو دَقَّق البصر وحَدَّده، يرى نيكولا العجوز، ذلك المُسمَّى باسم قديس، عاريًا هناك تحت شمس أغسطس الجُهنَّمية.. وسط ديكور فج، من بازلت وجرانيت، وأحجار أخرى جِيريَّة وبَحريَّة مُتكلِّسة.. تُشكِّل وهادًا أحيانًا وتلالًا أحيانًا.. يقف هناك نيكولا، كما قَرَّر لنفسه، على قمم خادعة مُتزلِّجة، مُؤرجَحًا على حصى دقيق من الأسبيستوس وبِلُّورات الرُّخام ذات الأَسنَّة القاطعة.. والقواقع المُهشَّمة من مليون ألف عام.. يقف هناك نيكولا الذي لا وطن له.. عاريًا ومصلوبًا على الفراغ المُتأجِّج الحرارة وحده.. تلفحه ريح الصَّحراء.. عارمة بين حين وحين.. فلا يمكنه أن يَدَّخر منها ملء قبضته.. كذلك يفعل نيكولا كُلَّ يوم.. وباستطاعة ذلك الطَّائر ـ وليكن واحدًا من تلك الصُّقور الشَّرقيَّة البُنِّية الرِّيش، الصَّفراء المخالب والمناقير ـ أن يراه كُلّ يوم في نفس الميعاد، على صليبه المُتخَيَّل والحَتميِّ معًا، لو جاء مُحلِّقًا فوق الدَّرهيب خلال رحلته من بئر شلاتين وجبل الأبرق، وعبر القمم المُتألِّقة ببياض الرِّيش في جبال زرقة النَّعام.. إلى وليمة الجثث في وادي الجمال حيث تموت أنثيات الإبل أحيانًا من عنف الجِماع. ولكن.. حتَّى الصُّقور نفسها تمتنع عن الطَّيران والشَّمس في كبد السَّماء.. وهكذا يبقى نيكولا يمارس طقوس عذابه وحده، غير مَرئيٍّ إِلَّا من السَّماء التي بهتت واقشَعرَّت وتَحيَّرت جِدًّا، من هول أفعاله التي يستعيدها في رأسه! وما تكاد الشمس تنحرف عن مجلسها العمودي في رحلتها المتأنية إلى الغرب ، في ذلك الفراغ الصَّحراويّ المُضمَّخ برائحة الجبال المَزهوَّة بعريها تحت الشَّمس، وتكون الصُّخور الحمراء قد بدأت تَشعّ لهبًا.. والصُّخور السَّوداء تكون قادرة على طهي الخبز.. عند ذلك يدرك نيكولا المَأساويُّ أنَّه غير جدير باحتمال العذاب بهذه الطَّريقة.. فيدحرج جسده العاري من القمم المُتزلِّجة هابطًا إلى مأواه في بطن الدَّرهيب.. ليواصل الطُّقوس بطريقته الأخرى.. في بطن الدَّرهيب يختلف الأمر.. فالمكان هنا حافل بمُخلَّفات البشر.. حيث يتَقوَّس باطن الدَّرهيب.. وتنحدر قِمَّته إلى السَّفح، عند المنتصف تقريبًا، تستوي الأرض وتصبح مُمهَّدة، شبه دائرة أَوَّلًا حيث أُقيمت البيوت الخَشبيَّة ودورة المياه.. ثُمّ تنبعج الدَّائرة المُمهَّدة.. مُكوِّنة فناءً أمام البيوت الثَّلاثة تتناثر فيها بقايا الخشب وعادم الآلات وبقع الزَّيت السَّوداء وبراميل الصَّاج.. وينبعج الفناء مُكوِّنًا دربًا ضَيِّقًا يصعد حينًا ثُمَّ يبدأ في الغوص بين الصُّخور.. يغوص ويغوص، حتَّى يصبح نفقًا منحوتًا مكشوف السَّقف على الفضاء.. وحينئذ يواجه المرء فُوَّهة الدَّرهيب.. مدخله.. الباب الذي يقود إلى كنوزه وجواهره. لكن الكنوز والجواهر أصبحت مهجورة حين حمل الجميع متاعهم عن الدَّرهيب ورحلوا، فما عاد باستطاعة أحد أن يهبط إلى جوفه الآن سوى نيكولا الوحيد.. ففي الجوف طرق طويلة ومَمرَّات، وغرف على الجانبين.. وميادين.. على عمق ألف متر من ذلك المدخل المسحور.. وعلى امتداد عشرات الكيلو مترات، في تلك الأنفاق التي تَتوسَّدها قضبان حَديديَّة تسير عليها عربات نقل الأحجار والخامات رسمها نيكولا كُلّها وخَطَّطها بعقله الخبير. لقد وقف هنا نيكولا في جوف الدَّرهيب ملايين المَرَّات على مدى السِّنين. في السَّراديب الحَارَّة والسَّراديب الباردة، في الكهوف البيضاء المُظلَّلة بالأخضر الشَّديد القتامة، في ذلك المناخ الثَّلجيّ حيث تحيط به وكأنَّها سيوف مشرعة أسنان خامة التَّلك الشَّمعيَّة التَّكوين.. وقف نيكولا الطَّيِّب ورسم للرِّجال مَمرَّات أقدامهم في جوف الدَّرهيب العظيم، بل إنَّه جعلهم يلمسون قلبه الدَّاخليِّ بأيديهم الخشنة.. ومع ذلك رحل الجميع، تاركين خلفهم ما ثقل عليهم حمله وفَكَّروا لجرأتهم أن يأخذوا نيكولا معهم! ويبصق نيكولا من فمه ترابًا صَحراويًّا حملته الرِّيح، ويلعق حلقه الجاف بلسانه الجاف ويبرطم بلكنة ركيكة سبابًا عَربيًّا وهو يتَأمَّل الفناء الخرب والمهجور أمام البيوت حيث كانوا يروحون ويجيئون، يعملون ويأكلون ويلعبون الورق ويشربون صاخبين أو شاكين همومهم.. لقد أخرجوا جميعًا محاسنهم ومباذلهم وقَدَّموها على تراب هذا الجبل وصخوره، قرابين فطنة وخلاعة.. فما أغباهم حين يهجرون أرواحهم الحَقيقيَّة ويرحلون. لكن تلك طبيعة الأشياء. فهم قد جاءوا كثيرًا.. ورحلوا كثيرًا.. ودائمًا كانوا قادرين على أن يأخذوا أرواحهم الحَقيقيَّة معهم. ودائمًا كان يبقى نيكولا مع الدَّرهيب وحده. لقد هربوا. جميعهم هربوا.. يقولها نيكولا مُحتَدًّا، ثُمَّ يلين صوته، وترق نبراته، وكأنَّه يحنوا على جبنهم وفرارهم.. وكأنَّه موقن أنَّ طاقته على الاحتمال فوق طاقتهم، وأنَّهم في النِّهاية أحرار مُستقلِّون عن المكان لا يَشدّهم إليه ذنب ولا تربطهم به خَطيَّة.. فليس منهم من ضاجع ابنته في باحة هذا الجبل، وعلى وسادة من صخور، وأولدها طفلًا، ثُمَّ سرقه منها وهي نائمة ليطعم منه الذِّئب والضَّبع! وليس منهم من قاد تلك الإبنة في سراديب الجبل المظلمة ودهاليزه الحَارَّة والباردة، ومضى يدفعها أمامه في مسيرة جَنائزيَّة حتَّى تنتهي السَّراديب المطروقة وتبدأ السَّراديب المهجورة، تلك التي لم تطرقها قدم من مئات السِّنين، فيتركها هناك بعد أن يغلق عليها كهفًا بانهيار صَخريٍّ غادر......".
يلزمنا هذا المستقطع الوافي للاستعانة به، تحليلًا، في توضيح زاوية من زوايا وجهة نظرنا بخصوص هذه الرِّواية، كما يلزمنا الإشارة إلى أنَّ المُقدَّسات لم تكتسب هالتها المهيبة بالأساس سوى لكونها مُغيَّبة، ليست واضحة، ولا مفهومة بتمامها، للعيان. ما يعني أنَّ الرِّواية، أَيّ رواية، تحفظ جلالها إذا غَيَّبت مضمونها عن قارئها لأطول وقت ممكن، لا تكشفه سهلًا، أو مُبكِّرًا، فإن فعلت يكون طَبيعيًّا تَعرُّضها للاستهانة، عندما يتعامل معها هذا القارئ على أنَّها كَونٌ لا يَتمتَّع بالإلغاز المراوغ، أبسط من أن يُنظر إليه باهتمام. حينها سيتابع الأحداث من علٍ، قارئًا من فوق، حاكمًا عليها، لا مُتًّهمًا أمام عدالتها.
ضربت "فساد الأمكنة" بهذه الإشارة عرض الحائط؛ فبمواصلة القراءة حتَّى نقطة النِّهاية سنكتشف أنَّه لا حدث رئيس آخر مفاجئ ينتظرنا، وأنَّه قد تَمَّ حكيها كُلّها في هذه الأسطر القليلة من مدخلها القصير! حينها قد يظن البعض أنَّ صبري موسى ارتكب ذنبًا لا يغتفر باستمرار الكتابة، لما يقارب المائتي صفحة، بعد هذا المقطع الفاضح لفحواها! لكن هذا البعض سيعود يقينًا ليسأل نفسه باندهاش بالغ: كيف تجاوزتُ هذا الذَّنب العظيم واستمريتُ أقرأ حكاية قُدِّم في صدر مدخلها موجزًا تَفصيليًّا لها، ومع ذلك بقيتُ مرتبطًا بمتابعة أحداث أُخبرت بها سلفًا دون أن تعترضني بادرة ملل أو زهق؟
إجابة هذا السُّؤال تكشف عن تلك المناورة الرَّشيقة التي أجراها صبري موسى ببراعة، في مدخل روايته، ليكسر استِعلائيَّة القارئ المُحتمَلة إزاء نَصّه المكشوف، عندما عزف عن استخدام راوٍ عليم يحكي بحيادية لا تولى اهتمامًا بالقارئ، ما قد يُؤدِّي بهذا الأخير إلى مزيد من الاستِعلائيَّة، مُفضِّلًا توظيف راوٍ عليم أيضًا، لكنَّه مُستعلٍ، يرتدي حُلَّة القداسة مع ذلك يولي القارئ كُلَّ اهتمامه، مثل خالق مستغنٍ غير أنَّه دائمًا يحاور مخلوقاته.
وحتَّى يُحقِّق صبري موسى استعلاء يعالج به خلل نَصّه الرِّوائيِّ المنكشف بسطوره الأولى كان عليه أَلَّا يبدأ الحكي من قلب المكان الذي دارت فيه أحداث "فساد الأمكنة"، فمهما كان لجبل الدَّرهيب من عظمة تَتَّسم بها شواهق الكائنات، إِلَّا أنَّه يبقى مكانًا أَرضيًّا محدود الارتفاع، بينما يلزم نجاح المناورة استعلاءً لا محدودًا، لذلك كان عليه اللجوء لحيلة سَرديَّة فائقة الإبهار، عندما بدأ الحكي من أعلى نقطة في السَّماء، واصفًا المشهد بعيني طائر مُحلِّق لم يُسمِّ نوعه بداية، ليتَضخَّم في خيال القارئ حتَّى ليصير رُخًّا أو عُقابًا. ثُمَّ تكتمل المناورة بأن يسمع القارئ صوت هذا الرَّاوي المستعلي المهيب، يَنسلّ إلى أذنيه رخيمًا، عميقًا، واصفًا ساحة الأحداث لا رغبة في الوصف للوصف، كما يفعل غيره من الرُّواة العليمين، بل ليربط بين مُكوِّنات المشهد ومصائر أبطاله، ويمارس الحكمة السَّاخرة مجاهرًا بها كإله من آلهة الأوليمب المتسامية عن البشر والمنافسة لهم في آن. وهكذا، بهذه المناورة في مدخل هذه الرِّواية، وجد القارئ نفسه بإزاء أسطورة، والأسطورة مهما تَعرَّت أحداثها مُبكِّرًا، أو انبسطت فكرتها دون عمق، أو اقترب مرماها، تَظلّ حكاية جديرة باستحواز شغف مُطالِعها، تخلب لُبَّه فيتابعها مُستَلبًا من أَوَّل "طقطق" حتَّى "السَّلام عليكم". وهكذا لم تنجح "فساد الأمكنة" في الإفلات من السُّقوط الذَّريع وفقط، بل رقت إلى ذرى الرِّوايات العَربيَّة الأهم، والأبدع!
مع ذلك ظَلَّ هذا المدخل مُلغزًا، إذ انطوت ثَنيَّاته على سؤال ظَلَّ يثير حفيظتي، حول السَّبب الذي أَدَّى بصبري موسى إلى الكشف عن كُلِّ روايته، مُبكِّرًا جِدًّا، في الوقت الذي كان يمكنه تلافي ذلك! هل كان الرجل رِوائيًّا ساذجًا إلى هذا الحَدّ، أم عَبقريًّا مدركًا لما يفعل؟ استغرقني هذا السُّؤال لوقت طويل بعد انتهائي من القراءة الأولى لـ"فساد الأمكنة"، وقد تنبلج إجابته، إن أفلحت في الوصول إليها، عن فَرضيَّة مُهمَّة تلزم مُشيِّدي الرِّوايات بأقوى مِمَّا تلزم قَرَّاءها الأقحاح، إجابة لها علاقة أكيدة بكَيفيَّة إبداع رواية محتشدة بعيوب خطيرة ، مع ذلك تفلت من فخاخ السُّقوط، وتصنع تَميُّزًا مفارقًا! كان عَليَّ تقديم إجابة ما لنفسي، خصوصًا وقد تَوهَّج سطوع العيوب بعد القراءة الثَّانية لهذه الرِّواية دون أن أكون قادرًا على وصمها بالرَّداءة، أو حتَّى بالعَاديَّة، وإنَّما ظَلَّت مختلفة، آسرة، عبقرية!
في محاولة جَادَّة للبحث عن هذه الإجابة قرأت مُقدِّمة قصيرة للغاية كان صبري موسى قد كتبها تصديرًا للطَّبعة الصَّادرة عن مكتبة روزاليوسف عام 1976، والتي أجتزئ منها هذا المقطع القصير، كتب: "في ربيع عام 1963. أمضيت في جبل الدَّرهيب بالصَّحراء الشَّرقيَّة قرب حدود السُّودان، ليلة، خلال رحلتي الأولى في تلك الصَّحراء.. وفي تلك الليلة وُلدت في شعوري بذرة هذه الرِّواية. ثُمَّ رأيت الدَّرهيب مَرَّة ثانية بعد عامين، خلال زيارة لضريح المجاهد الصُّوفيِّ أبو الحسن الشَّاذليّ المدفون في قلب هذه الصَّحراء عند عيزاب. وفي تلك الرُّؤية الثَّانية للدَّرهيب أدركت أنَّني في حاجة لمعايشة هذا الجبل والإقامة فيه، إذا رغبت في كتابة هذه الرِّواية. وقد وافقت وزارة الثَّقافة على تَفرُّغي من نوفمبر عام 1966 إلى نوفمبر عام 1967 للإقامة في الصَّحراء حول الدَّرهيب.. للتَّفكير ومحاولة الكتابة.. ولكنَّني بدأت في كتابتها وعام 1968 في أَوَّله.. ثُمَّ انتهيت منها وعام 1970 لم يبدأ بعد".
كما قرأت، في نفس الإطار، مجموعة من المقالات النَّقديَّة التي كتبها بعض كبار النُّقَّاد والأدباء، في العديد من الصُّحف والمَجلَّات المختلفة، مثل رجاء النَّقاش في المُصوِّر، ويوسف الشَّاروني في الثَّقافة، وأبو المعاطي أبو النَّجا في الهلال، وإقبال بركة في اليقظة الكُويتيَّة، وعلاء الدِّيب في صباح الخير، ونبيل فرج في الثَّقافة، ومحمد جبريل في الثَّقافة أيضًا، وعلى شلش في الكاتب، وغالب هلسا دون تحديد جهة نشره مقالته؛ حيث صُفَّت هذه المقالات متتالية بعد انتهاء الرِّواية بطبعة مكتبة روزاليوسف. ولم يشفِ واحد منهم غليلي في مقالته، حين اكتفى جميعهم بالثَّناء على خروج صبري موسى بالأدب من الوادي إلى البوادي، واعتبار "فساد الأمكنة" رائدة الأدب العَربيِّ إلى مجاهل الصَّحراء، بعد أن مكث دهرًا منشغلًا فقط بتشريح المدن والقرى المعتاد تشريحها، وقد أدهشتهم هذه الأجواء الجديدة، ليبدوا إعجابهم الشَّديد ببعض المشاهد الغريبة التي صَوَّرتها الرِّواية، مثل مشهد عبدالله كريشاب وهو يضاجع عروس بحر ميتة في حضور السُّلطة اللاهية، ومشهد مئات الأفاعي تسعى حول البئر الوحيدة. ذهبوا يطنبون في كيف أنَّ الرِّواية وَجَّهت الإدانة لملك مصر في العصر البائد، فاروق، الذي شاع فساده في البلاد حتَّى أصاب حشاشة قلب نيكولا في جبل الدَّرهيب النَّائيِّ! ثم لم تطرح مقالة منها أَيّ أسئلة بخصوص كَيفيَّة بناء هذه الرِّواية، أو حتَّى الاستفهام عن السَّبب الذي أَدَّى بالرِّوائي إلى الكشف عن خَطِّ سير روايته في هذا المدخل الغريب! وكَأنِّي، عندما باغتني هذا السُّؤال المُضنيّ وحدي، أتَحوَّل إلى نيكولا الذي باغتته الخطيئة المضنية وحده، وعليه وحده التَّطهُّر، كما عَليّ وحدي تقديم الإجابة!
نعود إلى ربيع 1963. وطقس صَحراويٌّ بديع. لا زهور في الفيافي، مع ذلك تشيع الرِّمال روائح وَثَّابة لعطور صلدة، تُنشِّط روح الإنسان. كان أن انقضى عقد من الزَّمان على تَحرُّر مصر من ربقة المَلكيَّة، وكان أن تَبوَّأت ذروة العالم العَربيِّ، وحتَّى الإِفريقيِّ، سريعًا، كما اعتلت قِمَّة الاهتمام العَالميِّ كفرس جامح تنطلق بعنفوان نحو مركز الرِّيادة في محيطها، سِياسيًّا وفَنِّيًا وصِناعيًّا واجتمَاعيًّا. بينما صبري موسى، في رحلة صَحراويَّة رسمتها له الأقدار بخُطَّة سير مَمتدَّة من العمق الجُغرافيِّ إلى العمق الأَدبيِّ، يطالع جبل الدَّرهيب فتجتاحه العظمة اجتياحًا. إنَّه جبل مُتوسِّط الارتفاع مع ذلك تبرز قِمَّته عَمَّا حوله من قمم الجبال، فيبدو درهيبًا، أو رهيبًا! مخرجا الكلمتين يتقاربان! الرَّهبة والدَّرهبة، الرَّهيب والدَّرهيب. ثُمَّ عندما يمشي على سفحه، مُتتبِّعًا رفاقه المرشدين، المُطَّلعين على أمر هذا الجبل، يكشفون له عن كونه منجم قديم، مهجور. فيطالع مدخله، قبل أن يحاول الولوج إليه بمشاعر متباينة، يحب اكتشاف الآثار الصَّامتة لأناس صخبوا هنا طويلًا، في ذات الوقت يخشى العالم المؤذي الذي أوجده الخراب. فما أن يرحل الإنسان عن المكان حتَّى تَحلّ الأفاعي والعقارب وبنات آوى والذِّئاب، وكُلُّها آفات ومفترسات ستجد ملاذات رحبة وآمنة في مئات من السَّراديب التي شَقَّت بطن الدَّرهيب في عِدَّة طبقات. وقد يكون تَشجَّع بصحبة مرافقيه فاكتشف الطَّبقة الأولى، وقد يكون ألقى نظرة سريعة أثناء وقوفه على حَافَّة المدخل. فأنا أكتب رؤيتي هذه ولم أقرأ بعد كتاب الرَّجل الذي دَوَّن به رحلته الصَّحراويَّة، والذي قيل إنَّ أحداثًا حَقيقيَّة وقعت له خلالها أوردها فيه، قبل أن يسردها وقائع أَدبيَّة في روايته هذه. لكن على كُلِّ حال كان الطَّائر المُحلِّق فوق الدَّرهيب، الذي اختاره صبري موسى رائيَه الأَوَّل لمكان الأحداث، قد أبصر بناظريه الحَادَّين قلبًا مبدعًا في مدخل المنجم، يَدقّ رهبًا ورغبًا، ومُهيَّئًا للزَّرع، ليقذف في روعه بذرته المُقدَّسة، تلك التي يُطلِق عليها بعض دارسي الأدب ومُنظِّرينه مُسمًّى: الحالة الرِّوائيَّة. أو: الإحساس الرِّوائيُّ. ربما في هذه اللحظة التفت صبري موسى حوله منبهرًا، ثُمَّ همس لأحد مرافقينه: المكان يصلح لأن يكون ساحة رواية مختلفة.

إرسال تعليق