U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

صَيْد سمكة جميلة


 


 

نهر بلادي فاض وغطَّى أرضنا، وقرانا ونجوعنا صارت كما الجُّزُرِ العائمة وسط البحور، ومن ماء البحور في أول النهار تخرج الشمس المُسْتَحِمَّة، لونها لون النحاس البرَّاق، والقوارب الصغيرة بين القرى تتهادى، وأشجار السنط والجميز والنخيل التي لا يبدو منها إلا رؤوسها الخضراء يَخْبطها الريح فيهزَّها، فتصنع على سطح البحر دوائر تتَّسع وتتَّســع.

على طرف نجعـنا الشـرقي جلست مُمْسِكًا بطرف غابة طويلة، يتدلى من طرفها الآخر خَيْط، والخَيْط ملفوف على بوصة صغيرة لفَّتين، والبوصة الصغيرة طافية على سطح البحر، ومنها يمتد الخَيْط ليتعلَّق به شص ملقى في عمق الماء، مَنْكوت فيه دودة من دود الأرض طُعمًا لسمك البحور، في وجهي الشمس النُّحاس، وفي يساري بدت معالم سطح بيت عمى في العلا.

على سطح بيت عمى وقفت البنت "لبنى" تنظر إلى العالم نظرة الصَّباح، فرأت بحر الفيضان والنخيل والأشجار والقوارب والشمس النُّحاس، ورأتني جالسًا أصطاد سمكًا، وارتعشت قطعة البوص على سطح الماء فصنعت هي الأخرى دوائر تتَّسع وتتَّسع، وغاصت وطَفَت في قفزات سريعة، السمكة تتعارك مع الشص، وصوت الذي علَّمني الصيد يدوِّى في أُذُنَىَّ: "حتى تتمكن من صيدك اصبر عليه". قلت: "وما هي علامة التمكن؟". يدوِّى صوته: "إذا هوى الصيد يثقل".

عرفت منه أن السمكة لما ينغرس الشص في خياشيمها تحاول بحركات سريعة حادَّة أن تنزعه، فتبدو قطعة البوص على سطح الماء وهي تتقافز بجنون، وعندما تيأس السمكة تهرب إلى الأعماق بالشص المنغرس فتغوص قطعة البوص ولا تعود، و"لبنى" على سطح بيت عمى في العلالى تبتسم، والحمام الجبلي من البرج الذي بجوارها يخرج ويرفرف، ويطير فوق بحر الفيضان، ويقف على أغصان الشجر وشواشى النخيل، وكانت قطعة البوص تغوص وتغوص، هو إذن صيدي هوى، جذبت الغابة إلى أعلى لأخرجه، لكن الغابة انثنت وارتعشت في يدي، الصيد ثقيل، السمكة ضخمة جدا، وصوت الذي علمني الصيد دوَّى في أُذُنَيَّ: "صيدك الضخم سُسْه حتى البر، الصيد الضخم يحب السِّياسة". بهدوء سحبت الغابة إلى الوراء، وقطعة البوص التي اختفت في الأعماق بدأت في الظهور، وتحت سطح الماء كانت سمكة فضِّية مهولة الحجم تتقلَّب، ومن الفرحة تَنَطَّط قلبي، لا أحد في نجعنا صاد مثل هذه السمكة، وبسياسة سحبت الخيط حتى طلع جسمها كلُّه على البر، وعلى البَرِّ تقافزت بشدة، كانت في قفزتها تعلو حتى حدود سطح بيت عمى، طولها طول رجل، وعرضها عرض كبش قوى، خِفْت أن تقفز عائدة إلى بحر الفيضان فألقيت جسدي عليها، حوَّطتها بذراعيَّ، ووجهي واجه وجهها، رأيتها جميلة، عيناها مثل عينيْ "لبنى"، وفمها مثل فم "لبنى"، إلا أنها كانت حزينة، بينما البنت "لبنى" على السَّطح في العلالى مبتسمة، ترقب الحمام الجبلي الذي يطير من البرج ويتقلَّب في السماء.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة