واحدة من أهم وأمتع الرِّوايات التي قرأتها على الإطلاق، حيث يَتجلَّى
الإبداع وَهَّاجًا بين ثناياها، تنساب سطورها انسياب الخطوط البديعة في لوحة خَلَّاقة.
تبدأ أحداث الرِّواية بعام 1738، في ضاحية
فقيرة من ضواحي باريس، أحد أسواق شارع أوفير المُقرف، كُلّ شئ يبعث على الكآبة،
الفقر يُحاصر البشر، بائعة سمك تلد غرنوي، بطل الرِّواية، تحت طاولة تجارتها، تنقذه
الأقدار من مصير إخوته السَّابقين، إذ كانت هذه الأم تقتل وليدها فور وضعه لعدم
قدرتها على تَحمُّل نفقات طفل. تُحاكم، تُدان، يتم إعدامها، يُدفع بغرنوي إلى أحد
الأديرة الذي يقوم بتوفير جان بوسي مُرضعًا له، لكنَّها تعيد الرَّضيع إلي الأب
تيرير! فقد لاحظت أنَّه ليس طفلًا عَاديًّا، وإنَّما شيطان! لا يفوح جسده برائحة
الرُّضعاء المُميَّزة، ولا أَيَّة رائحة أخرى، إنَّه عديم الرَّائحة تمامًا، فضلًا
عن شراهته في الرَّضاعة.
رغم المصاعب يصير غرنوي طفلًا في العقد الأَوَّل
من عمره، يعمل لدى أحد الدَّبَّاغين ليكتشف هناك أنَّه يستطيع شَمَّ أدق الرَّوائح،
القريبة وتلك المُثارة من أبعد الأماكن!
في مراهقته يُقدم على أَوًّل جرائمه، حيث يقتل
عذراء ذات شعر أحمر بعد أن تَتبَّع رائحتها من أقصى مكان في باريس حتَّى وصل
إليها، قتلها بشكل مفاجئ دون قرار مُسبق، سحب رائحتها باستنشاق طويل ليبدأ ولعه
بالعطور، وليكون عطر ذات الشَّعر الأحمر دافعه الجنوني نحو الوصول إلى تركيبة عطر
لم يصل إليها بشر من قبل.
يعمل لدى صانع العطور بالديني، ثم يترك العمل
مهاجرًا إلى وحدته فى جبل بلومب دى كانتال، يبقى في أحد كهوفه الضَّيقة كالجحور
سبع سنوات كاملة قبل رؤيته لكابوس تجعله يغادر الجبل إلى مونبلييه.
بعد أحداث عجيبة مع النبيل تيلاد اسبيناز،
المجنون بنَظريَّة طِبيَّة تَوصَّل إليها مُؤخَّرا، يتركه جرنوي هاربًا إلي جراس،
بلد الزُّهور والعطور، تزداد هناك قدراته الخارقة في تركيب العطور، بل يَتطوَّر
شغفه بروائح الكائنات حد محاولاته استخلاص العطور من الجمادات، ومن جثث الحيوانات
بعد قتلها، ليصل الأمر إلى ذروته باستخلاص العطور من أجساد البشر، بالتَّحديد،
العذراوات ساحقات الجمال!
يُكرِّر تجربة القتل الأولي أربع وعشرين مَرَّة
متتالية، يثور الذُّعر بين النَّاس. بينما النبيل ريتشى، والد لور، أروع العذراوات
جمالًا، يهرب بها بعيدًا عن جراس، يَتتبَّع غرنوي عطرها فيعرف مكانها، ومن ثَمَّ
يقتلها ليستخلص عطرها بعملية يصفها زوسكند ببراعة واقتدار متناهيين.
أخيرًا يتم القبض على غرنوي، خلال محاكمة جرت
في ثمانية وأربعين ساعة يُحكم عليه بالإعدام. عند حلول وقت التَّنفيذ، والسَّاحة
قد امتلأت بأكثر من عشرة آلاف مُعاين، ولأنَّ المُتَّهم، بفضل مزجه للعطور التي
استخلصها من أجساد القتيلات الفاتنات، كان قد استطاع انتاج عطر يتَحكَّم في مشاعر
النَّاس، فما أن نزل من عربة الشُّرطة أمام مِنصَّة الإعدام، ونثر عطره هذا، حتَّى
تَبدَّلت مشاعر آلاف البشر، منهم أهالي الضَّحايا أنفسهم، من الكره الشَّديد له
إلى الوقوع في غرامه، والمطالبة ببراءته! تتم تبرئة غرنوى فعلًا، ويقع النَّاس في
حالة عجيبة من الهياج الجنسي، يقضون فيه ليلتهم دون وعى!
يغادر غرنوي البلد إلي باريس، هناك، في مدافن
موتاها، حيث يَتجمَّع غريبو الأطوار ليلًا، يصب بقية زجاجة العطر على جسده فَتتكتَّل
حوله جموع من هؤلاء النَّاس، قبل أن يدفعوه أرضًا، ويأكلونه قطعة قطعة، من فرط الحُبِّ
المشحون في زجاجة العطر.
اختار زوسكند مكان وزمان أحداث الرِّواية بعناية
فائقة فحالفه التَّوفيق الفارق، ولأنَّه مبدع بالأصالة فقد قَدَّم لنا العَاديَّ جِدًّا
في شكل غير عادي، ليدفعنا نحو التَّفكير من جديد، لنكتشف أنَّه لا شئ عادي في هذا
العالم! أو كل شيء عادي في هذا العالم! من مِنَّا لا يعرف أنَّ لكل حال إنساني
إفرازاته الهُرمونيَّة الخَاصَّة؟ ومن ثّمَّ روائحه؟ لكن زوسكيند الوحيد الذي
التقط هذه المعلومة ليصبغها بخياله الخارق فيصنع منها هذه الرِّواية "الفلتة"،
وما كان له التقاطها لو لم يكن صاحب مُخيِّلة جَبَّارة، مَكَّنته من بناء هذه
المسرودة الأنيقة، لنجزم أنَّه من غير خيال يفلق المعتاد فلقًا لن يكون هناك مثل هذا
الإبداع الذي يتماس مع كل البشر فى كل أنحاء الأرض.
لن يمكننا التَّحدُّث عن اللغة هنا، فالرِّواية
مترجمة، لكن المترجم نبيل الحَفَّار كان على مستوى الرِّواية فعلًا، عندما قَدَّم
تعريبًا سلسًا خدم الرِّواية في ثوبها العربي كثيرًا.
جاء بعض الأحداث الجَانبيَّة ثقيلًا على الرِّواية،
لو تَصوَّرنا عدم وجودها ما أخل تَصوُّرنا بالرِّواية شيئًا، بل ربما منحها كثيرًا
من الرَّشاقة، مثل قِصَّة النبيل الإيطالى تيلاد إسبيناز. كما لم يُمكن فهم المراد
من زَجِّ زوسكيند بغرنوي كي يبقى في جبل كانتال لسبع سنين متواصلة، ثم يغادره دون
أن يشعر القارئ بأي تغيير أصيل طرأ على شَخصيَّة البطل، أو حتَّى على محفل الرِّواية
ككل!
الرَّائحة في هذه الرِّواية عمودها الفقري، وقد
أشار زوسكيند، بعد انقضاء ثلثي "العطر" تقريبًا، إلى أنَّ النَّاس لا
ينتبهون لوجود غرنوي بينهم لأنَّه عديم الرَّائحة، واهتم كثيرًا بالتَّركيز على
هذه النُّقطة، وكأنَّ هذا الأمر يُمثِّل منعطفًا مختلفًا في سرد الأحداث، بينما لم
يكن الأمر كذلك، فطوال الوقت يلمس القارئ عدم انتباه النَّاس لغرنوي دون التَّنويه
عن السَّبب، فلماذا التَّنويه بعد ثلثي الرِّواية دونما سبب؟!
بعد أن بَدَّل الحاضرون في ساحة تنفيذ الإعدام
رأيهم ومشاعرهم نحو السَّفَّاح غرنوي من الكره الشَّديد إلى الحُبِّ الشَّديد
يأخذه النَّبيل ريتشى، والد لورا المغدورة الأخيرة، إلى منزله، يسهر على راحته، بل
يعرض عليه تُبنِّيه إن لم يكن له والد، يُؤكِّد له غرنوي على أنَّه من غير والد، يفرح
ريتشى جِدَّا ويطلب منه تَقبُّل تَبنِّيه له. هنا سقطة كبيرة فعلًا لو لم يكن في الأمر خطأ مَطبعيٌّ. كان تاريخ هذا العرض
الأبوى الحنون أحد أَيَّام عام 1797، العام الأخير لغرنوي، فحتَّى
وإن كانت الرِّواية تجرى فى عالم خَياليٍّ غَرائبيٍّ، إِلَّا أنَّه بمراجعة تاريخ
ميلاد غرنوي، لن يكون بمستطاعنا بلع فكرة غير مستساغة بحال من الأحوال، مفادها إنَّ
رجلًا يرغب بالفعل في تَبنِّي رجل عجوز في العقد السابع من عمره تقريبًا!
هذا بخلاف التَّصوُّر الكاريكاتوري لمدى شؤم
غرنوي على كل من تعامل معه بأي شكل!
مع ذلك تبقى الرِّوايات المختلفة أعظم بكثير
مِمَّا احتوته من أخطاء مُحتَّمة، فالعمل الكامل لم يُكتب بعد.

إرسال تعليق