U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

حاملة الأبقار


 


نزل الرجلان من على حماريهما بعد أن ألقيا السلام، فقال وهو يركن الجوزة:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الشمس المتوهجة فوق "الجبيرات" مائلة نحو الغروب، تلهب الحقول والنجوع بالحرارة القائظة، ماكينة الري العتيقة ماركة "ألان" تدور مصدرة صخب رهيب، طَرَّادها يقذف الماء ويهدر.

قال أحدهما: "هاااه، ورِّينا الأمانة". فهتف: "ومستعجلين ليه؟!". ثم نادى: "يا ابراهيم". فجاء صوت طفل من داخل البيت: "أيوه يا با". فقال: "هات الحصيره". استدرك: "والشاي".

 

    في الجدول الصغير يجرى الماء، يتقلب نقيا، يقفز فيضرب عشب حافتي الجدول، الحماران مقيدا الأرجل لكنهما يلتهمان العشب بنهم، الأرض مبسوطة وعمرانة بالخضرة، يرشف أحدهما الشاي ويقول: "يا خى هِمْ اومال ووَرِّينا الأمانه".

 

مضى إلى داخل البيت، بعد وقت خرج وهو يقبض على حبل في نهايته بقرة حمراء داكن لونها تسر من يراها، في سيرها يحتك بها عجل صغير عمره شهر، لونه بنى مغزو بالبقع البيضاء، على جبهته بقعة واحدة بيضاء، قال أحدهما وهو يتحسس عظام مؤخرتها: "يا خى دي ما فيهاش لحم". قلب الآخر شفتيه وقال: "تكلِّفنا كَتِير على ما تتملى". فاستدار صاحب البقرة بالبقرة وهو يقول ساخرا: "يبقى استنوا على ما املاهالكم لحم". أحدهما زعق وهو يجذب الحبل من يد الرجل: "يا خى خد واعطى في الكلام ومتقطعشى الأرزاق". فقال صاحب البقرة متصنعًا الضيق: "الارزاق بيد الله وحده، أنا ياعرب مش حابيع بيع المحتاج". فقال أحدهما: "طيب حتبيع ولدها معاها؟". قال: "لاه، وحدها".

رفعت البقرة رأسها، وشمت الهواء، ونظرت إلى شمس المغارب ونعرت.

 

    شمس المغارب كرة حمراء كبيرة متوهجة، مرتكزة على سن جبل الغروب، الزروع خضراء حوافها ذهب، ماسورة عادم ماكينة الري تقذف الدخان الأسود إلى السماء بينما تسعل سعال الربو، الرجلان قالا: "السلام عليكم". وركبا حماريهما، أحدهما قبض على الحبل الذي في منتهاه البقرة الحمراء الداكن لونها، انطلقا على الحد البور الفاصل بين الحقول المزروعة، وانطلقت البقرة خلفهما، لكن بعد وقت لم تشعر بخطوات وليدها خلفها، لم تشعر باحتكاكات جسده الطري بجسدها، حاولت أن تقف وتدير رأسها فجذبت اليد العفية الحبل وأرغمتها على المسير، وهناك أمام البيت وقف العجل الصغير يحدق بعينيه السوداويين فى أمه التي تبتعد مع رجلين غريبين يمضيان بسرعة، أطلق من حنجرته صوتًا عاليًا فيه نحيب، سمعت البقرة صوت وليدها فأدارت رأسها إلى الخلف بعنف دون أن تقدر على الوقوف فرأت البيت يبتعد، رأت وليدها ينظر ناحيتها والرجل الذي باعها يقيد حركته بقسوة.

 

  ليل القرى، الهجوع للإنس، الصحو لحيوانات البراري الفتاكة ولجراد الحقول ولصراصير البيوت، نقيق ضفادع، من حين لآخر ينبح كلب في تكاسل، داخل الحظيرة العجل الصغير ينظر في ظلام المكان الذي كانت تشغله أمه، ظلام شاغر، رهيب، يئن، يتقلقل، يدور حول نفسه، الجمل المربوط في الركن البعيد يرفع رأسه ويرغى، الجاموسة مكوَّمة على الأرض تجتر طعامها وهى تنظر إلى العجل الخائف ببرود، ليل القرى ثقيل، الإنس في غير صحو، الصحو للذئاب والثعالب والفئران، وللبقرة الحمراء التي وجدت نفسها من بعد عز الحظيرة البراح واقفة بصعوبة بين عشرات الأبقار في حوش ضيق مختنق.

 

ديك الفجر صاح، علا أذان ابن آّدم، عوت الكلاب تحية للصباح القادم، قلب البقرة رق ورهف، ضرعها المثقل باللبن ارتعش، طغت عليها رغبة عارمة في إرضاع وليدها، تضرب الأرض بأرجلها، ترفع رأسها إلى سواد سقف الحوش وتنعر.

 

    الشمس الذهبية طالعة من وراء نخيل الشرق، الرجل الذي كان صاحب البقرة أخرج بهائمه من الحظيرة إلى الحقل وذهب إلى ماكينته الإنجليزية العتيقة، بدأ يعمل في طقوس تشغيلها، هنا في "الجبيرات" البعيدة عربة "فورد" تهدر وأبقار تُساق للركوب فوق هذه العربة، البقرة التي تسر من يراها ركبتها، العربة هدرت بقوة قبل أن تتحرك الأرض والبيوت في عيون الأبقار.

 

   الطريق التي تسير فيها حاملة الأبقار تدور حول البيت الذي تركته البقرة فى مغارب الأمس، اليوم ضحى، نور الشمس ساطع، في الدوران رأت البقرة البيت، رأت سقف الحظيرة، ماسورة عادم ماكينة الري، قلبها سقط، البيت يدور، النخلات الواقفة شرقيه تظهر، الحقل، مرتع الصباح، مكانها، ورأت عجلها الصغير يقف بهيَّا بين الجمل والجاموسة يطوح برأسه في الهواء كأنما يبحث عن شىء، البقرة ضرعها ترجرج، حلماته الطويلة تفتحت ثقوبها، تدفق منها لبن أبيض ناصع البياض، ملأ أرضية حاملة الأبقار، نعرت البقرة لكن الأرض لم تقف، إنها تمضى مسرعة، النخيل والأشجار تتكالب على البيت وتخفيه، تخور البقرة، تدفع بجسدها بقية الأبقار لكن الأرض لم تقف وإنما جرت بأقصى سرعة، واختفى وليدها.

 

    حاملة الأبقار تخترق المدينة، البيوت حادة الزوايا تتوالى، الشوارع السوداء القاسية لا تنتهي، الناس لا حصر لها ولا عد، حمير هزيلة تجر عربات خشبية ثقيلة في ذل أرخى آذانها إلى الأصداغ، كلاب نحيفة تسير متلصصة، قطط تجرى فزعة في جذور الحوائط، شمس مكفهرة تقذف بالحمم، وحاملة الأبقار تخترق المدينة إلي ضواحيها حيث المبنى الكئيب الذي تقطع فيه رقاب الأبقار، والبقرة الحمراء الداكن لونها في هذه اللحظة تهش بذيلها ذباب المدينة، تنتظر بفارغ الصبر أن ينتهي كل هذا حتى تعود إلى عجلها الجميل، وحظيرتها الواسعة، والحقول البراح.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة