يحيا الإنسان يومه كاملا، بكل ما فيه من مرارات، ولحظات حلوة،
حتى إذا ما جاء الليل، ورفرف الكرى، وتمدد لينام، يجد نفسه في عالم آخر، عالم عجائبي،
فيظل الصحو، ليعيش في منامه مرارات أخرى قد تتضخم فتصير كوابيسا، ولحظات حلوة قد تشف
فيري نفسه يعانق الحور العين في جنات "الفردوس".
بالأحلام يبقى الإنسان، دائما، في حالة صحو.
زمان، كانت هناك ممثلة جميلة، اسمها "ليلى حمادة"،
نجمة "التليفزيون" وقتها، وكنت أمر في فترة المراهقة، وأحببت هذه الممثلة
جدا، فصرت أتتبعها في أي مسلسل، وصارت البنت الحلوة، في نظري، هي تلك التي تشبه
"ليلى حمادة".
وفي ليلة جميلة، ذكراها لم تنمح من ذاكرتي حتى الآن، وأظنها
لن تنمحي ولو بالموت، رأيت "ليلى حمادة" جالسة على الكنبة التي في حجرتي،
تنظر لي وتبتسم ابتسامتها الملائكية، فاتنة الجمال البنت، شعرها الأصفر الحريري يفيض
حول رقبتها المقدودة من مرمر، وخداها السكر، وعيناها المملوءتان بمرح الحب، وشفتاها
المشحونتان بلهيب الغرام، تنظر لي وتبتسم، كنت أجلس إلى "ترابيزة" خشبية
رديئة، أذاكر دروسي، لكن "ليلى" هزت رأسها بدلال الغواني، وضحكت، وفردت ذراعيها
تدعوني لحضنها الرائب، أنا قمت، وتحركت نحوها مذهولا، "ليلى حمادة" في غرفتي؟!
وتدعوني لأحضانها؟! وفجأة وجدتني غارقا في قبلة حارة طويلة، أول قبلة أمص فيها شفتي
امرأة في حياتي .
ـ هاهاهاهاهاه..
أول بوسة في حياتك بوسة وهمية لامرأة وهمية!
ـ بس كانت بوسة يا
حبيبي.. بوووووسة.
ـ وبعدين؟
ـ ولا قبلين! صحيت.
قبلة أخرى أسكرتني، وجعلتني أطير بين زروع الحقول، وهامات
النخيل، قبلة خطفتها خطفا من "حنان" قبل أن تصير زوجتي، كانت تقف تحت شجرة
برتقال في حديقة أشجار الفاكهة، الملاصقة لبيت عمي، و"حنان" بنت عمي، أميرة
الخضرة، وربة الغيطان، تطلع على دنياي شمسا مضيئة، وروحا للبكارة، أريد تقبيلها، وهي
تتمنع، وتستحيل، وأنا أترقب لحظة القنص، حتى ملكتها، وخطفت القبلة.
كانت لحظة مثل حلم.
الآن، تهفو روحي لتقبيل شفتي "أمينة زيدان"، المرأة
التي يخيل لي أن الله قد خلقها من طمي النيل، وجعل شفتيها لافحتين بوهج الرغبة والاشتهاء،
هي القبلة الثالثة لأنثى تراود أحلامي يقظة ومناما، هي القبلة التي سيكتمل بها ثالوثي
المقدس، فامنحني يارب شفتي "أمينة"، أمصهما، طقسا بديعا، قربانا لسكينتي،
ولو في عالم الأحلام.
وزمان أيضا، أعلنت جريدة "أخبار الأدب" عن مسابقتها
الأولى للقصة القصيرة، ولم تكن لدي قصة للدخول بها في المسابقة، وكنت قد قررت أن أفوز
بالمركز الأول، بقيت أياما أتسول فكرة، أي فكرة، وعالم الإبداع يأبى العطاء، وفي ليلة
باردة، وبينما أنا تحت غطائي، أتسكع في تلك المروج الضبابية التي تمتد ما بين الصحو
والكرى، ينبلج الإبداع عن عطائه، وتتهادى أمامي عربة "كارو"، يجرها بغل غبي،
يسوقها "عربجي" متجهم، و ... سطعت الفكرة، وكتبت القصة، "عجلات العربة
الكارو الأربع"، وأرسلتها إلى الجريدة عبر البريد، وأسلمت نفسي للانتظار.
وعندما اقترب ميعاد ظهور النتيجة، بدأ القلق، وكلما اقترب
اليوم المنتظر، اشتد القلق، حتى جاءني هذا الرجل العجوز في ليلة ربيع، كان مهيبا بلحيته البيضاء، المنسدلة منسابة على
صدره، وعيناه مملوءتان عطفا ورقة، وجلبابه الأبيض يهفهف مثل أجنحة ملائكة. كنت واقفا
في أحد شوارع "الأقصر" أمسك بيدي سمكة متعفنة، أهم بإلقائها بعيدا من فرط
عفونتها، والدنيا ليل، والشارع صامت، فسمعت صوته المحذر قويا: لا تلقها.
قلت له: إنها متعفنة.
مد يده وأخذها مني، شق بطنها المتهرئ بأصبعه، وأخرج منها
خاتما فضيا كبيرا، جميل الزخرفة، أعطاه لي وهو يقول: ضعه في أصبعك.
وضعت الخاتم الفضي في أصبعي، فإذا أنوار مبهرة تتفجر منه
لتنطلق في شعاعات لا حصر لها ولا عد، تنشر النور في السماوات والأراضين، ومن خلف ستارة
النور التي صنعتها الأشعة، كان وجه العجوز باسما، وفي لحظة الفرح الطاغي بالخاتم، انتابني
إحساس بأن هذا العجوز سوف يأخذه، أليس هو من اكتشف وجوده في قلب سمكة متعفنة كنت سألقي
بها إلى أبعد مكان؟ لكن جاءني صوته حانيا: الخاتم حفظته الأقدار لك في قلب سمكة متعفنة..
حتى لا يأخذه غيرك.
وصحوت.
ـ هاهاهاهاهاهاه.. دا انت عليك شوية أحلام! وبعدين؟!
فزت بالمركز الأول، مناصفة، مع البنت التي يخيل لي أن الله
قد خلقها من طمي النيل، "أمينة زيدان" التي لها شفتان لافحتان بوهج الرغبة
والاشتهاء، أطلب من الله الآن أن يمنحني مصهما، ولو في الحلم.
وزمان، تركت الكتابة، لما رأيتها مطية المدعين، وميدان فرسان
لا يصولون إلا على الورق، ورحت إلى بلاد الدين، وعشت مع السلفيين، نجوب القرى، والمدن،
ندعوا المسلمين إلى حقيقة "الإسلام".
الإسلام، عقيدة "العقل"، ودين "الرحمة"،
ودعوة "العلم"، وتقديس "العمل".
الإسلام إنسان، لا ملاك ولا شيطان، و"محمد"، صلى
الله عليه وسلم، إنسان، ضحك في وجه من بال داخل المسجد، واحمر وجهه غضبا من فعل الثلاثة
الذين أخذوا أنفسهم بالشدة في الدين.
وأطلقت لحيتي، وقصرت جلبابي، الشكل مهم، مثل المضمون تماما،
الشكل يجبرك كثيرا على تحقيق المضمون، كانوا يقولون : ربِّ لحيتك تربِّك.
اللحية لن تسمح لك بـ"البصبصة"، ولا بمغازلة النساء،
ولا بتدخين السجائر، ولا بإتيان أي منكر، عندما تطلق لحيتك، فأنت تتشبه بالأنبياء،
وما أروع أن تتشبه بخير خلق الله كلهم.
وأحببت النبي "محمد" جدا، وما زلت أحبه، وسأظل
أحبه، لكن زمان كنت أشف، وأجمل، مع الله، أبحث عن رضاه، لي هفواتي، بل لي سقطاتي، فأنا
الإنسان الناقص بنفسه، الكامل بنقصه، لكن لا ضير، هفواتي تسقطني وأنا على الطريق القويم،
وأن أمشي، وأسقط، في الطريق الصحيح، خير من أن أمشي وأسقط في الطريق الخطأ، هناك يوما
ما سأصل، لكن هنا لن أصل مطلقا.
وأحببت أن أري "محمد"، وليس هناك من سبيل إلي رؤيته
إلا في المنام، ومن رآه في المنام فقد رآه حقا.
وفي ليلة، وجدت نفسي أمشي في مدينة صغيرة هي أشبه بالقرى،
أبحث عنه، ثم وجدت نفسي في متسع داخل أحد البيوت، وامرأة صغيرة لم تبن لي ملامح وجهها،
ترتدي السواد، وصوتها المملوء بالشباب يقول: رسول الله مش هنا.. خرج من فترة وما رجعش
لغاية دلوقتي.
خرجت وأنا أتساءل : هل هذه هي "فاطمة" الزهراء؟
ثم وجدت نفسي خارج حجرة، تحت سقيفة بسيطة من جريد النخل،
حولي جرار وأواني من فخار، وأمام باب الحجرة وقف أحد الرجال، قال لي: ماذا تريد؟
قلت: أريد لقاء رسول الله.
قال: انتظر حتى أستأذن لك.
وخرج الرجل بوجه باسم، وفتح لي الباب، ودخلت، رأيت "محمد"
يجلس في صدارة الحجرة، وعلي يمينه جلس ثلاثة رجال، لم أعرف من هم، ولم يكن يهمني ذلك،
فقط كنت أريد ان أعبئ عيني برؤية هذا الرجل الأعظم على مر العصور، ونظر لي بوجه باسم،
ففرحت، وكيف لا أفرح يا ناس ورسول الله يضحك في وجهي؟! ومد يده الشريفة ليصافحني، ورغم
أني لم أكن قد خطوت ناحيته أية خطوة، إلا أن يده وجدتها في يدي، فسارعت بضم يده الكريمة
بين كفي، وانهلت عليها تقبيلا، وظلت يده بين كفي، حتى تركتها حياء من أن أكون قد أثقلت
عليه.
وخرجت، وصببت من أحد الجرار نبيذا مما كان يشرب منه رسول
الله في قعب صغير، وأخذت أشرب، النبيذ حلو، أحركه بسبابتي، فيزداد حلاوة، وأشرب، وأشرب....
وأذن الفجر.
حلاوة لا تدانى، ورواء في رواء من رواء، الله أكبر.
وكان رجل قد ذهب إلى النبي "محمد"، وقد اقتنص قبلة
من شفتي حسناء، ذهب يحمل ذنبه الكبير، فما عنفه الحبيب، ولا حتى قطب في وجهه، وإنما
نصحه بالاستغفار.
يا الله، يا من جعلت كمال الإنسان في نقصه، وخلقت الحسناوات
فتنة لكل لبيب حازم، امنحني شفتي "أمينة زيدان"، أمصهما، أرشف نبيذهما الحلو،
أحركه بلساني فيزداد حلاوة، وعندما أفيق من سكري، سأستغفرك.
وصحوت.

إرسال تعليق