القاهرة.
شارع كلوت بك.
لوكاندة رومانس.
الغرفة 22 .
رُغم استغراقي في النوم إلَّا أنَّني شعرت بباب الغرفة يُفتح بهدوء!
كيف؟
لقد أغلقت هذا الباب بالتِّرباس الدَّاخلي الصَّغير!
رفعت رأسي من على الوسادة المتهالكة، فرأيت فتاة!
ذُهلت.
لم أذهل لكونها تمكَّنت من الدخول إلى غرفتى رغم انغلاق بابها بالتِّرباس
الدَّاخلي، وإنِّما لفرط حسنها، وجمالها.
البنت، بالكاد، عمرها عشرين، الوجه مدوَّر، والخدَّان بغمَّازتين، والذِّقن
لا يبز عن حدود الاستدارة، وبغمَّازة أيضًا، والعينان عينا بقرة، والأنف دقيق،
والشفتان مكتنزتان، والبشرة خمريَّة، وشعرها في سواد الليل، منسدل حتَّى أعلى
الرِّدفين، كموج بحر ينساب تحت طوق قماش، خيطت به زهور ملوَّنة من قماش، أيضًا،
لكنَّه تغطَّى بالتِّرتر.
البنت ترتدي جلبابًا طويلًا، من كتفيها حتَّى أصابع قدميها، يلمع بخطوط
طوليَّة برَّاقة، مفضَّضة ومذهَّبة، ويضيق على جسمها، فبدت مثل سمكة فاتنة، رشيقة
وموزونة.
البنت رقبتها قمع سُكَّر، ينضح بلون الورد البلدي.
وقفت تنظر لي، وشفتاها تصنعان نصف ابتسامة، فاعتدلتُ نصف اعتدالة، بينما
صنعت شفتاي دهشة تامَّة.
الغرفة 22 في لوكاندة رومانس ضيِّقة، لمَّا خطت البنت فيها خطوة واحدة،
صارت فوق رأسي.
حديقة زهور فوَّاحة بالأريج العبق، روائحها دخلت صدري، فامتلأتُ بحياة
أروع.
أمسكت بيدي، فاندفعت أرواح بهيجة إلى سكن روحي، وخرج صوتها منها كلها، كان
فمها منغلقًا، فخرج صوتها منها كلها:
انهض لتأتي معي.
البنت صوتها ناي، أو عزف ربابة، أو تقاسيم طقاطيق على القانون، صوتها يسكر.
قالت موسيقاها بعزف لحوح: هيَّا.. انهض لتأتي معي.
لو كنت في وعيي، ما سألتها: إلي أين؟
فهذه بنت يذهب معها الإنسان إلى مرابض الشَّياطين من غير سؤال، لكنِّي كنت
سكرانًا بسحرها الخارق، فسألتها: إلي
أين؟
قالت: شارع المُعِز.
وتدللت، وقالت: أورِّيك جُثتي.
- أعوذ بالله.
هتفت وأنا اعتدل في فراشي بسرعة حيَّة تهاجم فأرًا. نظرت إلى البنت فلم
أجدها، ولا كانت يدها تشد يدي، وباب الغرفة 22، في لوكاندة رومانس، مغلق من
الدَّاخل بالتِّرباس.
بصقت عن يميني، وعن شمالي، وقلت في نفسي: ملعون أبو حظي.. حلمي الجميل
ينتهي بكابوس!
قلت، لموظف استقبال لوكاندة رومانس، وأنا أمد يدي إليه باسطًا كفِّي: مفتاح 22 لو سمحت.
بيد كسولة أعطاني المفتاح، من غير أن يرفع وجهه عن صفحة الرِّياضة في إحدى
الجرائد.
صعدت السَّلالم الضَّيقة، وعندما وصلت إلي باب الغرفة، تذكَّرت حلم الليلة
الفائتة، ارتعد جلدي رعدة خفيفة، فتحت الباب وأنا أشعر بأنَّني، يقينًا، سأجد
البنت نائمة على سريري، فأحسست بشعر رأسي ينتصب، ويطقطق.
لم تكن البنت نائمة في السَّرير، فألقيت بحقيبتي، المملوءة كتبًا، على
المنضدة الحائلة الألوان، وأغلقت الباب، ودفعت التِّرباس الدَّاخلي ليتعشَّق في
منامه، وجفن عيني الشِّمال يتراقص.
لم أغير ملابسي، تعبان، تعبان جدَّا، فرميت جسدي في السَّرير، وتعبي غلب
خوفي، وقلبي كَنْ، وانغلقت عيناي، فغطست في النَّوم.
ورغم أنِّي استغرقت في النَّوم، إلَّا أنَّني سرعان ما عدت إلى حافَّة
اليقظة، كان باب الغرفة ينفتح بهدوء!
كيف؟
كيف؟!
أنا أغلقت هذا الباب، من الدَّاخل، بالتِّرباس!
رفعت رأسي، رأيت البنت واقفة في حلق الباب، تبتسم بشفتيها نصف ابتسامة،
وتضحك بعينيها ضحكة في جمال زغرودة.
البنت عمرها تسعة عشر عامًا، الوجه هالة بدر، والخدَّان وردتان في قلبيهما
طلعان مشتهيان، والذّقن رأس يمامة مزوَّقة ببؤرة داكنة، والعينان عينا بقرة سارحة
في مرج أخضر، والأنف ألف مستدق، والشَّفتان قربتان صغيرتان مليئتان بماء البيرة،
والبشرة ورق زهرة، وشعرها ليل ظالم يستبد بردفين لهما، حتمًا، ضوء الصَّباح.
وفستانها، المذهَّب في المفضَّض، يحبك جسدها الذي في ليونة الملبن.
وصدحت موسيقاها بنغمة الدَّلع المدسوسة في مقام الإلحاح: هيا.. انهض.. انهض.
اصطدمت بما سيحدث، ستقول لي: تعال
أورِّيك ....
أمسكت يدي، وجذبتني بقوَّة، فاعتدلت، نظرت إليها وفي عيني الفزع كله.
البنت ضحكت بعيني عروس في فجر صباحيتها:
مُذ قُتلت لم يعرف أحد حتَّى الآن مكان جثتي.
وجذبتني من ذراعي: انهض.
الغرفة 22 ، في لوكاندة رومانس، لها شبَّاك يطل على خواء مملوء قمامة، ثم
بعد الخواء أسطح مبان قديمة جدَّا، واطئة ومتهالكة، ثم شارع كلوت بك وضجيجه الذي
شعرت به يعصف بالغرفة، لمَّا مدَّت البنت يدها وفتحت الشُّباك .
ـ هَّيا بنا.
البنت صعدت فوق السَّرير، ثم بدأت تضع إحدي قدميها على حافَّة النَّافذة.
نظرت إليها مسحورًا، ماذا تفعل هذه المجنونة؟! لو قفزت من الشُّباك
ستتفتَّت بين أكوام الزِّبالة.
مدَّت يدها، وأمسكت بشعري المضفور في ضفيرة واحدة، وجذبتني إليها، قادتني
مثل راع جاف القلب، وانقدت مثل معزاة مريضة، أريد الكلام، لكن فمي لا ينفتح!
وضعت قدمي، مرغمًا، على حافَّة الشُّباك بجوارها، ثم صخبت الموسيقى بمقام
هاتف: اقفز.
قفزتُ، ورغم أنَّها كانت تقبض على ضفيرتي، إلَّا أنَّني سقطت في الهواء..
هببت فزعًا، أحاول أن ألحق بقلبي الذي كان يهوي، وصدري الذي ينتفض، ونَفَسي
الذي انقطع.
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وتفلت عن يميني وشمالي. ـ يخرب بيت أبو حظي! البنت حلوة.. والحلم صار من
أوله لآخره كابوس.
حتَّى يصل الإنسان إلى لوكاندة رومانس من شارع كلوت بك، عليه أن يدخل في
زقاق ضيِّق جدَّا، في ناصيته اليمين كشك بقالة عامر، وفي ناصيته الشِّمال فاترينة
مشويَّات الفراخ، والممبار، والكرشة، ولحمة الرَّأس، ومشويَّات الكفتة، والكباب.
بعد كشك البقالة محل صغير، للبقالة أيضَّا، لكنَّه يضيف إلى نشاطه عمل
سندويتشات الجبنة، والحلاوة الطَّحينيَّة، واللانشون، بعد هذا المحل مقهى صغير
للغاية، وبعد المقهي مطعم أسماك نيليَّة، تتضوَّع منه روائح السمك المشوي، والمقلي،
بداخله رجل له كرش يلفُّه بملاءة بيضاء اتَّسخت بالشُّحومات، وتدور على الزَّبائن،
الذين جلسوا على المناضد خارج المحل، بنت.. ياااااه.. البنت!
البنت التي، بالكاد، عمرها يقترب من العشرين، وجهها المدوَّر، وخدَّاها
اللذان بغمَّازتين، وذقنها الذي لا يبز عن حدود الاستدارة، وله غمَّازة، وعيناها
اللتان كعيني بقرة، وأنفها الدَّقيق، وشفتاها المكتنزتان، وبشرتها الخمريَّة،
وشعرها الذي في سواد الليل، ينسدل إلى أعلى ردفيها، مثل موج بحر ينساب تحت طوق
قماش، خيطت فيه زهور قماش تغطَّت بالتِّرتر.
البنت ترتدي جلبابها الطَّويل، يلمع بخطوط مفضَّضة ومذهَّبة، تمتد من عند
كتفيها، وحتَّى أطراف أصابع قدميها، ويضيق على جسمها، فتبدو مثل سمكة فاتنة، رشيقة، وموزونة.
توقَّفتُ، تمامًا، عن الحركة!
أنظر إليها، أكاد أخرقها بنظراتي.
فمي مفتوح، ولساني يزحف إلى خارجه، يندلق مرتخياً.
أنا مذهول.
البنت صنعت بعينيها نظرة اندهاش، وعملت بركن شفتيها نصف ابتسامة، ومشت بجواري
فغمرتني روائح ورود الحدائق، رغم أنَّها تحمل صينيَّة افتُرشت بأسماك مشوية ومقلية!
وصدحت موسيقاها:
ــ اتفضل عندنا.. سمكنا نشويه..
نقليه.. برضه بيفضل صاحي.ــ
فعلا! كان سمكها يلعب في الأطباق،
وينظر لي بعيون عابثة.
الكلب ابن الكلب، الجالس في استقبال لوكاندة رومانس، رفض أن يبدِّل لي
الغرفة، قال إن الغرف كلها مشغولة، وقال:
ــ مالها الغرفة 22؟!
كنت سأقول له:
ــ فيها عفاريت.
لكن لساني أصابه الخرس، وعندما نطق قال:
ــ فيها قمل وأكلان.
لوى، ابن الكلب، شفتيه وهو يعطيني المفتاح.
صعدت السَّلالم الضَّيقة، هل سأجد البنت نائمة في السَّرير، لقد بدأت
تزاولني، ها أنا رأيتها في مطعم السَّمك، طلعت من أحلامي إلى واقعي!
أدرت المفتاح، فتحت الباب، السَّرير خال، ومرتَّب، رعدة قويَّة أطاحت
بجلدي، ألقيت حقيبتي على المنضدة، تعبان وأريد النَّوم، فرميت بجسدي على السَّرير،
لكن النَّوم، الليلة، حمام يحلِّق ولا يحط، ونظراتي مركَّزة على التِّرباس
المتمكِّن من الباب.
أنا صاح، مستيقظ، منتبه تمامًا، وما يجري ليس حلمًا، وإنَّما حقيقة.
التِّرباس ينزلق، الباب ينفتح، وتطل البنت، تقف، تبتسم نصف ابتسامه، وتخطو،
باتِّجاهي، تلك الخطوة الوحيدة، فتصير فوق رأسي، تقبض على يدي، وتشدّني إلى
النَّافذة.
أنا صاحٍ أم نائم !؟
صوتها يصدح منها كلّها:
ــ هيَّا بنا.
تقف، منحنية، على حافة النَّافذة، أقف مرتعشًا بجوارها، عليل نسيم الليل
يأتي محملًا بروائح شواء الكفتة، والدَّجاج، وبخار قلي السَّمك، وعوادم السَّيارات
التي تتزاحم في شارع كلوت بك محاولة التَّحرك.
- اقفز.
قفزنا، طارت، وسقطتُ، جذبتني من ضفيرة شعري، حاولت الطيران، كانت أكوام
القمامة تقترب بسرعة مهولة.
وفي آخر لحظة، ارتفع جسدي برغبة أكيدة، مني، في الطَّيران، حتَّى لا ألقَى
الموت في كومة قمامة.
ارتفعنا، فردت جسدها على الهواء مثل حدأة تنساب في براح السَّماء من غير
حركة أجنحة.
ـ احفظ الطَّريق.
ـ أي طريق؟!
ـ الطَّريق إلى
شارع المُعِز.
ـ لماذا؟!
ـ لأنَّك.. في
المرَّة القادمة.. ستمشي إليه على قدميك.
نطير فوق شارع كلوت بك، السَّيارات المرصوصة، في نهره، تكاد تتلاصق،
كلاكساتها تزعق ضجرًا من طول الوقوف، أسطح
البنايات الغارقة في كراكيب وعشش قميئة المنظر، بشر يتحرَّكون مثل النَّمل،
حركاتهم تبدو عشوائية.
ـ الآن نحن نطير
فوق جراج الأوبرا.. أنظر.. ميدان العتبة.
يااه.. زحام.. ياااه.. أبونا آدم أنجب كل هذه البشريَّة!
أوتوبيسات، ميكروباصات سرفيس، عربات كارو، درَّاجات تسعى يحمل راكبوها
أقفاصًا مثقَّلة بالخبز فوق رؤوسهم.
وضجيج يرتفع مثل أزيز ذباب عملاق.
أنا فرحان جدَّا بطيراني.
المألوف ألَّا يطير أحد من البشر هكذا مثل العصافير، أنا الآن أخرق
المألوف، هذا المتوحِّش بصعوبته، واستحالته أحيانًا، لكن المحاولة تثبت العكس،
المألوف أجبن من فأر.
ها أنا أطير، الطَّيران ليس صعبًا، الطَّيران أسهل كثيرًا ممَّا نتخيَّل.
شكرًا للبنت التي ينساب شعرها وراءها مرفرفًا كأجنحة الحمام.
ـ كوبري الأزهر..
مصر القديمة..
مئذنة المشهد الحسيني، أعجوبة المآذن، كأنَّها قلم عملاق يرتكز إلي الأرض في وضعيَّة
"صاروخ" يتأهَّب للانطلاق نحو السَّماء.
ـ شارع المُعِز.
ياااه.. كل هذه مآذن!؟ مساجد! المباني
المملوكيَّة.. عبق تفَّاح يحترق في أحجار
المعسِّل، ورائحة الزَّنجبيل الحرِّيفة.
ـ اقتربنا.. استعد للهبوط.
الشَّارع ضيِّق، رُصف بقوالب من "جرانيت" أسود
يلمع، وعلى جانبيه محلات ودكاكين، تبيع النُّحاسيات، تبيع الفضِّيات، تبيع
الذَّهبيات، تبيع "نراجيل"، تبيع تماثيل "الفراعنة"، تبيـ....
ـ الآن.
نظرت تحتي، سطح مبنى قديم، قديم جدَّا، ونظيف جدَّ .
المناضد عليها زهاري ورد صغيرة، والزَّبائن جلسوا على
الكراسي، يضحكون وهم يأكلون الأسماك، وتطل البنت من باب المطعم، تحمل صينيَّتها
رُصَّت عليها الأطباق، وفي الأطباق السَّمك صاح.
أجلس إلى إحدى المناضد، بينما البنت تنساب، بين الكراسي، مثل عبق الرَّيحان،
ولمَّا تقترب مني تُميل رأسها ناحيتي، وتضحك، فيدق قلبي أركان صدري ويزلزله،
وترتعش روحي.
البنت مرسومة لوحة للعشق، وجهها يسيل بملامح دنيا مقطوفة من جنَّة عذاب،
غمَّازتا خدَّيها تنكئان راحتي، فتفتحا بوابات السُّهد، ذقنها المغموز يرميني في
وسع الغرام.
تخطو البنت في جواري، تحمل
أسماكًا مقليَّة ترتع في حقل مزروع بالجرجير والبقدونس، تحيط به شرائح الليمون.
زهور القماش
الملوَّنة تتمايل فوق شعرها الهفهاف.
جلستُ أنتظرها،
وجاءت، ورصَّت أطباقها فوق المنضدة، وقالت بالموسيقى:
ــ
سمكنا نشويه.. نقليه.. يفضل صاحي.
وضحكتْ، وابتسمتُ ابتسامة
بلهاء، وأردت أن أقول كلامًا، لكن خرسًا أصاب لساني، ولمَّا استدارت، كانت قد ألقت
في روحي جمرة متَّقدة بحجم جوفي، فنطقت عيناي بدمعتين.
وعيون السَّمك
تغمز لي، تعبث.
والبنت سمكة فاتنة، وموزونة،
تتقافز على أمواج حبِّي.
أنا
رأيت هذه البنت... رأيتها من قبل.
رأيتها خطوطًا منحوتة على جدار حجري منزو من جدران معبد الرَّامسيوم، في الأقصر،
جدار يشمخ، وحيدًا، بين الأطلال العتيقة، تنبت حوله حشائش حادَّة، ومدبَّبة، مثل
أشواك غضَّة.
هي البنت المرسومة على
الجدار بالأزاميل، عيناها فرعونيَّتان، مسحوبتان بخيط كُحل زاهي السَّواد، وشعرها
يطغى على كثيبي ردفيها، النَّهدان الألقان، إنسيال البطن، غور السرَّة، السَّاقان
الباسقتان، تنظر نظرتها الحالمة نحو شمس آمون، بأنف مستدق شامخ، ترفع ذراعًا إلى
أعلى، ينتهي بأنامل تقبض برقَّة على ذيل سمكة، تدلَّت مستسلمة لأشعة رب وهَّاج،
وذراعها الآخر يتدلَّه، ويتعبَّد......
هل حوَّلت وجهها
عن آمون، ونظرت إليّ؟!
"الرَّامسيوم" !!
لمعة الفجر في آفاق الشَّرق،
تبشِّر بتعالي قرص البرتقال.
أمشي على الكورنيش حتَّى المكان المخصَّص لمعدِّية النَّهر، النِّيل لا
يغفو أبدًا، لكنَّه، في الفجر، يكابد الوسن، فتزحف فوقه المعدِّية من غير تعب.
في وسط المعدِّية فاترينة
لبيع الحلوى، وبائعة الحلوى تعطيني ظهرها، وهي ترتِّب حلواها وراء زجاج برَّاق، بائعة الحلو.......!
زهور قماش عُلِّقت بمهارة
على شعر فاحم منهمر، يفيض على الظَّهر حتَّى يُغرق الرِّدفين فيضجَّا، والجلباب
الأسود يحبك المحبوك، فتتفجَّر فتنة منفلتة.
هل هي البنت التي....؟!
استدارت، فطلع
وجهها، وجه حمامة، لكنِّي هببت واقفًا، مفزوعًا.
هي البنت!
كيف استطاعت
التَّخلص من قبضة جدران الرَّامسيوم؟!
بحلقتُ في عينيها الفرعونيَّتين، فمدَّت يدها إلى لفافة، لمَّا فضَّتها ظهر
طبق "حوَّافة" مزخرف بأوراق زهور، وضعته أمامها، ونظرت في عيني، وأمالت
رأسها، وضحكت، قالت:
ــ تعال افطر معي.. كل سمكًا.
ورفعت ذراعًا تقبض أنامله على ذيل سمكة مشويَّة، تدلَّت مستسلمة. وذراعها
الآخر أنغرست أنامله في خصر ميَّاس.
هذه البنت حقيقة أم خيال؟!
هذا ألضَّنى الذي يقتلني.. من أجل حقيقة أم خيال؟!
خيال.
هذه البنت خيال.
مثلها لا يكون حقيقة.
الحقيقة هي أنِّي أتعذَّب بالغرام، جسمي نحل، حتَّى أن وجهي نتأت عظامه،
حتَّى أنِّي ما عدت أتحمَّل دقَّات قلبي من فرط هزالي، طالت لحيتي، وتشعَّث شاربي.
منذ متى لم أغيِّر ثيابي؟
ليست لدي رغبة في الاستحمام، ولا حتَّى في غسل وجهي، ليست لدي رغبة في دخول
بيتي، ليست لدي رغبة في البقاء في الأقصر، ليس لدي رغبة في البقاء داخل جسدي.
البنت حقيقة أم خيال؟!
جبل القرنة يملأ الأرض مهيبًا، صدره مثل صدور ملوك الفراعنة يتزيَّن
بالألوان، يتحلَّى ببيوت تلوَّنت بالجير الملوَّن، وانبسطت أمامه حقول القصب، في
سكون الخضوع لحكمته، وتمثالا ممنون سلطانان مكينان، يصارعان الفناء، وأطلال
الرَّامسيوم، والبنت منحوتة على جدار التَّاريخ، تقدِّم سمكتها لرب يتوهَّج
بالنُّور، ولا يقبل السَّمكة.
البنت تمر الآن أمامي، تسوق قطيعًا من الغنم، تنظر إليّ، وتغمز بعينها،
وتبتسم، وتخرج من حقيبة جلديَّة رثَّة، علَّقتها بكتفها، سمكة فضيَّة ترقص في ضوء
الشَّمس، فتتلألأ.
البنت تخطو على زهر البرسيم، خطو غزالة، فيحف وقع قدميها وجداني، فتغرورق
عيناي.
اااه.. يارب السَّماء.. يا سماء الحب.. يا حب العذاب.. يا عذاب الغرام.
البنت، في الأعالي، تسوق الغرام إلى عالمي، تطير بأجنحة ريشها قلوب
خفَّاقة.
تتساقط دموعي.
أركب القطار .
وداعًا يا الأقصر، وداعا يا الرَّامسيوم، وداعًا يا جدران التَّاريخ، البنت
منحوتة، الآن، في قلبي، وشوك سمكتها ينكأ شغافه، ينكأ من غير رحمة.
البنت حطَّت في شرفة مئذنة مسجد إسماعيل أغا السلحدار، بينما انهبدتُ
جوارها ساقطًا على جنبي، وقبل أن أعتدل، رأيت تدويرة كعب إحدى قدميها، تفَّاحة من
حرير وردي قاتم، يضيئ بنفسه، فلا تحجبه ظلمة الليل، نفسي تهفّني، أتلهَّف على قضم
التُّفاحة، لكنَّها سحبتني من ضفيرة شعري، فوقفت.
انسللنا، عبر فتحة مزوَّقة بمنحوتات منمنمة، إلى سلَّم المئذنة، سلَّم من
صخور مجلمدة، الهواء داخل المئذنة مملوكيَّا، ينحبس داخلها، لا يخرج إلى هواء
عصرنا، وهواء عصرنا لا يعبأ بالمباني القديمة.
السلَّم يهبط حلزونيَّا، يهوي إلى ضِيق، وهواء المماليك يمتزج بعبق زهور
البنت، فيتضوَّع مسكًا معتَّقًا.
- لو دخلنا من باب المسجد كان
أفضل.
ضحكت، فتقافزت ضحكتها بين الجدران والدَّرجات الضيقة.
- في المرَّة القادمة ستدخل من باب
المسجد.. وستكون مرهقًا بحمل ثقيل.
- حمل ثقيل!؟
- نعم.. جثَّتي.
انخلع قلبي، مالها؟! مالها هذه البنت؟! مالها؟!
ــ بعد أن
تقتلني.. ستلفّني في ملاءة السَّرير.. وستتركني ملقاة في غرفتك بلوكاندة
"رومانس".. وتنزل إلى شارع "كلوت بك" لتبحث عن جوال كبير..
وستجده ...
تتكلَّم بالموسيقى الصدَّاحة المرحة، وأنزل وراءها الدَّرجات المملوكيَّة،
الحلزونية، الوعرة، تتحدَّث عن شيء مهووس، تريد أن تصيبني بالجنون.
أنا أقتلها!؟
أنا أريد أن آخذها في حضني، أحوطها بذراعي، أتحسَّس ظهرها بكفَّي، أضغط
بصدري ثدييها.
أنا أقتلها!؟
أنا أريد أن أمصَّ شفتيها، وأشرب منهما البيرة.
أنا أقتلها!؟
أنا أريد أن آكلها قطعة قطعة، من غير أن تنقص منها قضمة واحدة.
ـ ستضعني في الجوال.. وستظل تفكِّر
طويلًا في كيفيَّة الخروج بجثَّة من لوكاندة تزدحم بالنَّاس.. وكل ما ستتوصَّل
إليه من خطط سيكون غير قابل للتَّنفيذ.
البنت مجنونة، ساحرة ومجنونة، تطير من غير أجنحة، وتتكلَّم بما لا يُعقل.
ــ لكن ستحالفك الأقدار.. وتعطيك فرصة أثمن من الياقوت.. وتنسِّق لك
مصادفة...
يبدو أنَّها تتحدَّث بمنتهى الجد، رغم أنها تلعب بكلامها....
أنا أقتلها؟!
خرجنا من غرفة المئذنة إلى صحن المسجد.
أنا أقتلها؟!
البنت لا تدري أنَّها صارت أنفاسي، شهيقي وزفيري، هل يقتل الإنسان شهيقه
وزفيره؟! البنت لا تدري أنَّها صارت كل هذا الكون الذي أعيشه، أقماره، وشموسه،
وبحاره، صارت ربَّة عالمي، وأنا عبدها.
أيستطيع العبد قتل ربَّه؟!
ــ ستمضي في
شارع كلوت بك متجها إلي الأزهر.. وفي الضَّجيج.. والزِّحام.. ستمضي مطمئنَّا
بحملك.. فلن يهتم أحد بك.. خاصَّة في منطقة مثل هذه.. مكتظة بمصانع صغيرة.. يحمل
عمَّالها الإنتاج على أكتافهم إلى شركات الشَّحن.. لن تثير لفافتك الكبيرة..
المحمولة على كتفك.. أي شبهات.
صحن مسجد إسماعيل أغا السلحدار، أعمدة رشيقة ذات طابع قوطي، وشخشيخة ذات
زجاج منمنم، ملوَّن، كتابات قرآنية منقوشة في الصَّخر بصبر.
طارت البنت من جواري، وأخذت تحلِّق في فضاء الصَّحن، وتضحك، تتقافز ضحكتها
بالصَّدى، بدت ملاكًا بديعًا نزل لتوِّه من جنَّة الفردوس، وجدت نفسي أحلِّق خلفها،
أحاول اللحاق بها، لاحَظَت محاولتي فبدأت تناور كي لا أدركها، كدت أصطدم بالنَّجفة،
المهولة، المتدلِّية من وسط الشخشيخة.
الآن أنا أريدها، الآن هي اللحظة الوحيدة التي امتنع عني فيها القلق، والآن
هي اللحظة التي أشعر فيها أن البنت تريدني، الآن هي تتعمَّد البطء، لاستطيع اللحاق
بها، تهبني فرصة العمر.
عبق المسك ينبعث هادئًا من السِّجاد المرسوم بأقواس، لا حصر لعددها، تتَّجه
نحو القِبلة، والبنت تحتي، مستكينة، وأنا أمص ماء البيرة من قربتي شفتيها، أنفاسنا
المحمومة تتعارك في فضاء الصَّدى، وحمامة تطل من إحدى الطَّاقات البيضاويَّة
الضَّخمة، الموزَّعة بالقرب من سقف المسجد، تهدل، فيتراقص هديلها مع أنفاسنا
المحمومة.
أمص ماء البيرة، بينما تحيط أصابعي بقمع رقبتها السُّكر، تتوسَّلها روحًا
مبهجًا من أرواحها، كي أستبدل روحي المنهكة.
عريانان، وملابسنا صارت قطعًا تطير في الهواء، تحملها مناقير حمام، كثير،
يرفرف في فضاء الصَّحن، يلعب، ويهدل.
قارورتا خمر مكوَّرتان، وأشرب السُكْر من الحلمتين، أشرب وأتضلَّع، وأضغط
على الثَّديين، فيمجَّان الهوس حتى الثُّمالة، لكنَّها تكركر بضحكة الحور، وتميل،
فتلقيني من فوقها، فأسقط على جنبي، كتلة لهب تفح كأفعى.
البنت تسير عارية نحو المنبر، ترتقي درجاته بمياسة، درجة درجة، حتَّى جلست
على مقعده، ونظرت إليّ من فوق، وهزت رأسها، فطار شعرها عبيرًا سلطانيَّا.
نور في المنبر، ودموع في عيني، فكرة تعذِّبني، وتحرق قلبي، هذه البنت ليست
لي، هذه البنت مخلوق سماوي، وأنا ابن آدم المخلوق من طين، قد يطير الطِّين في وسع
السَّماء، لكن الطِّين طين، والسَّماء سماء، والطِّين مآله التُّراب.
جدار الرَّامسيوم، والبنت عارية تقدِّم سمكتها للرَّب السَّاطع.
وفي منبر مسجد السِّلحدار، وقفت البنت عارية، تخرج موسيقاها منها كلها:
ــ الحمد لله الذي أبدع العشق..
وجعل له أوانٍ من قلوب.. والحمد لله الذي أوجد الهوى من الفناء.. وجعل غايته الفناء...
كانت تمد ذراعها إلى أعلى، وفي يدها سمكة فضِّية ترهج!
ثم صرخت بصوت ملتاع:
ــ يا حبيبي.. يا حبيبي..
وهوت!
تدحرجت على كل درجات المنبر، قبل أن أفيق من هول صراخها الملتاع، وأحطتها
بين ذراعي، وموسيقاها تروح، هَمَسَت:
ــ جثَّتي في سبيل
"السِّلحدار".. خلف جدار
الدَّوران الضَّيق.. السُّلم.
وصمتت!
ملابسنا يلقيها الحمام، أضم البنت إلى صدري، أضغط، أرجَّها، عل روحي تخرج
منِّي إليها.
هل يمكنني فعل شيء غير العويل والصُّراخ بصوت ملتاع:
ــ يا أيُّها الرَّب
السَّاطع.. كنت أخذت السَّمكة! تأخذها هي؟!
كنت أخذت السَّمكة.
البنت حيَّة، تنساب بين مناضد الزَّبائن، صينيَّة الأسماك على كفِّها،
وضحكة الحور على شفتيها، تنظر إليّ وتغمز، وتُميل رأسها، وتهمس:
ــ سمكنا صاحي.
وجهي ينعكس بمرآة قديمة في صدارة المطعم الضَّيق، هل هذا الوجه وجهي أنا؟!
شعري ضفيرة متهرِّئة، تهوَّش حولها شعر تيبَّس، ما كل هذه اللحية التي
أراها؟! ما كل هذا الوسخ الذي علق بها؟! وشارب كثيف سد منفذي الأنف، وغطَّى
الشَّفتين، أهذه رأس آدمي أم رأس تمثال قُد من طين؟
ينظر الرجل، صاحب الكرش الملفوف بملاءة طلتها الشُّحومات إليّ، ويقلب
شفتيه، وتضحك البنت، وتقول:
ــ تأكل هنا.. أم تأكل في الغرفه
22 ؟
خرج الكلام من فمي، يجرح حلقي:
ــ سبيل السِّلحدار.
البنت حقيقة أم خيال؟
أنظر إلى هذا الوجه، البائس، الملطوع في المرآة، أنا حقيقة أم خيال؟!
وكركرت ضحكة البنت.
لم أُجن بعد، فها أنا بإمكاني عمل ما أعمله كل ليلة، بعدما ادخل الغرفة رقم
22، في لوكاندة رومانس، أغلق الباب بالتِّرباس الدَّاخلي الصَّغير، وأتمدَّد في
فراشي، وأنام.
ما عاد يقلقني قدوم البنت، ودخولها الغرفة من غير فتح الباب، لأنِّي، كرجل
عاقل، أفهم تمامًا ما يحدث، إنَّه حلم، حلم يتكرَّر، ستأتي البنت و..
ما الذي يجعلني كل ليلة أغلق الباب بالتِّرباس رغم عدم جدوى هذا؟! هذا هو
الجنون بحق، أن نُصر على عمل ما لا جدوى من عمله.
- هِه.
اعتدلت، ومددت ذراعي بكاملها، وسحبت التِّرباس إلى الوراء، ثم ألقيت جسدي
في الفراش.
ولم أكن قد تمدَّدت، بكامل طولي، عندما ظهرت البنت في فتحة الباب.
البنت ربما لم تكمل العشرين، البنت ربما سنّها تسعة عشر سنة، ثمانية عشرة،
وجهها كحكة مدوَّرة في بنُّورة ضوء، وخدَّاها رغيفا خبز شمسي نقرهما، قبل النُّضج،
منقار عصفور، وذقنها تينة طايبة داعبها نفس المنقار، الشَّفتان قربتا بيرة، والأنف
نَفَس الأرواح، وشعرها ينسدل، هائجًا، نحو ردفين اشتدَّا استعدادًا للطُّغيان،
وزهور القماش، المخيطة في طوق القماش، تتمايل ملوَّنة برائحة البهجة.
البنت واقفة في صدر الباب، تهز رأسها وتبتسم، وتحمل على كفِّها صينيَّة
السَّمك.
البنت واقفة في صدر الباب، بجلبابها المحبوك على المحبوك، سمكة فاتنة
وموزونة.
لماذا لا تدخل ككل مرَّة، وتخطوا خطوتها، وتشد يدي، لنقفز سويَّا من
النَّافذة ونطير؟!
ــ أدخلي.
ــ سمكنا الصَّاحي يا جميل.
خطت خطوتين فصارت عند المنضدة الصَّغيرة، المتهالكة في ركن الغرفة، وضعت
الصِّينية عليها، السَّمك في طبق متَّسع مفروش بالبقدونس والجرجير، تحوطه شرائح
الليمون، هذه أوَّل مرَّة تدخل البنت غرفتي ومعها صينيَّة السَّمك.
استدارت، ثم خطت خطوة نحو الباب، رأسها يميل وتضحك.
ــ إلي أين؟!
ــ سأعود إلي المطعم.. تناول عشاءك
براحتك.. وفي الصَّباح سآتي لآخذ الصِّينية.
دمي يفور، وروائح زهورها تأجِّج خلاياي، وعري ثدييها، الذي تجلَّى لي في
مسجد السِّلحدار يشعل لهبًا في جلدي.
أمسكت بيدها، وضغطت أصابعي على كفِّها الرَّقيق:
ــ تعالي نطير إلى مسجد السِّلحدار.
نظرت لي بعينين مندهشتين، باسمتين:
ــ نطير؟!
ــ مثل كل ليلة.
كركرت ضحكتها وهي تهز رأسها فيطير شعرها، ويفوح مسك العنبر.
ما الذي حدث للبنت؟ كأنها لا تفهم ما أقول؟!
صعدتُ إلى السَّرير وأنا أمسك كفَّها، فتحتُ النَّافذة، بينما تحاول سحب
يدها، لكنَّي شددت من قبضتي عليها، وسحبتها لتصعد معي إلى السَّرير:
ــ نطير من هذه النافذة.
ــ ماذا تفعل يا مجنون؟
قالتها بصوت مرتعش! لماذا تتكلَّم
بصوت مهزوز؟! دائمًا يكون صوتها واثقًا
ومرحًا.
ــ كل ليلة تسحبينني لنطير من هذه
النافذة!
تحاول استخلاص يدها بكل قوَّة، لكن يدي تتشبَّث بها أكثر، ودبيب نمل أسود
مقاتل يضج في عروقي، نظرتُ في عينيها، مرعوبتين، ملأهما جمال فتَّان، جمال ساحر،
جمال سمعته يصرخ في روحي:
ــ أحضنها.
تبدو في رعبها أروع، أشعر بها تريد الهروب منِّي، لكن أنا أريد الهروب
إليها، أريد الهروب فيها، فحوَّطت خصرها بذراعيّ، وضممتها إليّ.
أشاحت بوجهها عنِّي وهي تحاول الفكاك، وخرجت من فمها زفرة قرف:
ــ إفففف.
ــ رائحتي عفنة!؟ منذ رأيتك وأنا
غير قادر على الاستحمام.. ولا حتَّى على
غسل وجهي.. منذ رأيتك وكل حبي لك.. لم
يتبق من هذا الحب قدرٌ أحب به نفسي.
هل كل هذه القوَّة تكمن، فعلًا، في جسدي الذَّائب؟!
البنت في أحضاني، تفرفط فتوقظ الشَّيطان اللابد في أوردتي، أنفاسها
المحمومة تندفع إلى رئتيّ، أرواح أفراس أشعر بها تتلبَّسني، لأتحوَّل إلى حصان
جامح.
أدفع البنت فألقي بها في السَّرير، شهقت شهقة عالية، وزعقت:
ــ أنت اتجنِّنت؟
أنا أحببتك، وأنا لمَّا أحب لا أحب كما يحب النَّاس، كيف تبقين منحوتة على
جدار الرَّامسيوم؟ يراك غيري، ويحبُّك غيري! كيف تبقين غواية لقلوب ربما لو لم ترك
ما عرفت الحب يومًا، أنا أحببتك فاعتزلت العالم، لماذا لم تعتزلي العالم، أنا
أحببتك فتعلمت البكاء، وأنت تضحكين وتضحكين وتضحكين، أنا أحببتك فذبت فيك، وأنت
تحتفظين بكيانك باهيًا ساطعًا، ترينني قطعة من تلك القطع التي تشكِّلين بها دنياك،
ليس أكثر، ثمَّ لمَّا ينتهي يومك تتذكَّرينني، فقط تتذكَّرينني لما ينتهي اليوم،
فتأتينني لتعبثين بي، لنطير!
ظلَّلتها بجسدي، مرادي احتواؤها، أن تدخل في جسدي، أو تحتويني، فأدخل في
جسدها.
لكنَّها صرخت.
البنت صرخت!
فوضعت كفِّي على فمها، وضغطت.
تصرخين!؟ خائفة!؟ تخافين منِّي أنا؟!
انكتم نفسها، فأخذت تهز رأسها بقوَّة، تحاول التخلُّص من يدي، وشعرها يميس
تحتها موج ظلام.
البنت كلما زاد رعبها، زاد جمالها، وتفجَّر جسدها، وأشتهي أكلها، أمضغ
لحمها قطعة قطعة.
أرفع كفِّي من على قربتي البيرة، وأضع فمي، لا أشرب البيرة، وإنما آكل
القربتين، تزوم البنت بنفس منحشر في أنفها، وتخطف رأسها من تحت فمي، وتشهق كأنَّها
تريد اللحاق بحياة تهرب منها، فأحيط بكفَّي رقبتها السُّكر، وأهوي بفمي على
شفتيها.
حياتي في أن أصير قطعة منها، أو أن تصير قطعة منِّي، وهي تضحك، وتهز رأسها،
وتقول:
ــ سمكنا نشويه .. نقليه.. يفضل
صاحي.
سمكتي يا بنت لا تبقى صاحية، سمكتي يجب أن تغيب فيّ.
أصابعي متشنِّجة، تنغرس في لحم رقبتها، تبحث بلهفة عن أرواحها المبهجة،
لأستبدل روحي المنهكة، وأسناني تقضم شفتيها، فتنزلقان إلى فمي كحبتي عنب تسبحان في
بحر البيرة الذي تفجر دافئًا.
جأرت البنت بخوار بقرة، قبل أن تنتفض انتفاضة مريعة، ثم تجحظ عيناها، ويسكن
جسدها.
تهاوي ذراعها تاركًا كتفي، اصطدم بحافة الصِّينية، لتسقط على الأرض بصوت
مدوٍ، فيتقافز السَّمك، ويتنطط .
لم أكن أعرف لماذا شدَّتني هذه البوَّابة، بالتَّحديد، من بين عشرات البوَّابات
التَّاريخية في شارع المُعِز.
اللافتة النُّحاسية، الصَّغيرة، المثبَّتة على يمينها: سبيل إسماعيل أغا
السِّلحدار.
اجتزت البهو، الواسع، المقبَّب، وصوت رنين صاجات بائع عرق سوس يتردَّد
بتهويم.
ثمَّة درجات حجريَّة مرتقية بعد خطوات قليلة، صعدتها متهيِّبًا، أنا أمشي
في التَّاريخ، وللتَّاريخ هيبة، فظهر على يساري باب ضيِّق، شكله لا يوحي أبدًا
بأنَّه مدخل لأعظم ما بنى الإنسان!
عبرت الباب لتقابلني عتمة، وسلَّم ينحدر، لم تبد لي نهايته، لكن أضواء نيونيَّة
خافتة أظهرت لي جبروت ابن آدم.
ما هذا؟!
أي بشر هؤلاء الذين استطاعوا حفر الأرض، بكل هذا العمق، منذ أكثر من ثلاثمائة
سنة؟!
ومن أجل ماذا؟
سقيا الماء!
ثمانية أعمدة حجرية ضخمة، يرتفع الواحد منها لمسافة إحدى عشر مترًا في قلب
الأرض، وقباب مهيبة لمخزن المياه الذي يسع أربعين ألف مترًا مكعبًا من المياه،
كانت تُنقل كلها في قِرب المياه المحمَّلة على أسنمة الجمال من النِّيل.
شهيقي وزفيري يتعاظمان، في هذا البهو الرَّهيب، حتَّى كأنَّهما لديناصور
يتنفَّس، الصَّدى.
ــ جلبهار.
ــ جلبهااااارررررررر.
ما هذه الموسيقى الطَّالعة من حنجرة بنت لا أراها؟! وما جلبهار؟!
أتلفَّت إلى كل النَّواحي. وكركرة هامسة، صافية، تفيض حولي. كركرة البنت
المنحوتة على جدار الرَّامسيوم في قرنة الأقصر، سمعتها وهي تقدِّم قطعة من الحلوى
لأحد زبائنها في المعدِّية التي تزحف على أمواج النِّيل إلى الغرب من غير تعب،
وسمعتها وهي تقبِّل حملًا صغيرًا ولدته إحدى نعاج قطيعها وهي ترعاه على حواف حقول
القصب.
ــ أنا سيَّدة التَّوابل..
المشهية.. والمشتهاة.. أنا هنا.
البنت هنا!
ــ جلبهاااااررررررر.
الصوت ينبعث ملائكيَّا من هناك، من هذا التَّجويف الغارق في العتمة.
تخطو قدماي إلى هناك خطوات مسحور، وعيناي تخترقان العتمة بنظرة الشُّرود،
الجدار المملوكي العتيد، والتَّجويف الضَّيق المُعد كسلَّم عمودي درجاته محفورة في
الصَّخر، و...
البنت!
ها هي البنت!
منحوتة على جدار التَّجويف، تنظر إلى أعلى، وترفع ذراعها بسمكة رهَّاجة،
ولا أحد يأخذ سمكتها.
لن يخطفك الموت أبدًا، لأنَّك صانعة الحياة، وأنت الخلود.
ألفُّها في ملاءة السَّرير، وأحملها على كتفي، أفتح النَّافذة، كانت فكرتي
أن أطير بها إلى شارع المُعِز.
عندما حاولت تسلُّق النَّافذة، شعرت بالدَّوار، لو حاولت الطيران بها سنسقط
سويَّا في أكوام القمامة.
لن أتركك وأهرب، الأغبياء سيدفنونك في تراب، بينما مكانك الماء، حيث أصل
الحياة.
سبيل سليمان أغا السِّلحدار.
سأضع جسدك خلف الجدران المشبَّعة بالماء التَّاريخي العظيم، تماما خلف
صورتك التي ظهرت لي منحوتة في عتمة التَّجويف المعد كسلَّم.
ها أنا أحملك في جوال على كتفي الذي تدلَّت منه حقيبة فيها إزميل وجاكوش،
وفي أحد جيوبها سمكتك الخالدة، أهبط بك درجات سلم لوكاندة رومانس، متهيِّئا للفرصة
التي ستهبنيها الأقدار كي يمكنني الخروج بك إلى الشَّارع المزدحم.

إرسال تعليق