هناك
ملائكة، تحمل على أكتافها عرش الشمس، الملكة،
منذ الأزل، ولم تكل، ولم تجأر بالشكوى، ولم تقل: إنا قد أصابنا التعب.
وها
هى فى هذا اليوم، مثل كل يوم، تهبط بالعرش إلى العين الحمئة، ولهبوط الموكب ضجيج،
لو سمعه هذا الرجل السيد، العربجى، الذى يجلس الآن على حافة عربته
"الكارو"، لصعق، لكنه مثل كل ولد "آدم"، لا يسمع بأذنيه
الرقيقتين إلا كل ما رهف صوته، لذلك ضرب الأخماس فى الأسداس، لما سمع صوت الهواء
المحبوس فى العجلات الثلاث يتحرر، وكان صوته كانفجار دانة بدينة، ثم ضرب الأسداس
فى الأسباع، لما رأى العجلة الرابعة تنفك من قيدها إلى العربة، وتدور وحدها
كالريح، تفزع إلى بعيد.
وتساءل
الرجل السيد، العربجى: ما هذا الذى أصاب عجلات العربة "الكارو"
الأربعة؟!
والبغل
الغبى لم يحر جوابا، فنفر الهواء من منخريه، وضربه بالأرض ضربة أثارت غبارا كثيفا،
ونظر إلى فوق، فأبصر الملائكة ترفع الشمس، الملكة، من على عرشها، وتدخل بها إلى
مخدعها، الرجل السيد، العربجى، رأى الشمس نصفها صار خلف سن الجبل، فصاح صيحة
الجبروت "حاااااا"، البغل، البهيم، أرعبته صيحة هذا البشرى المتجبر، فاندفع
إلى أمام، يجر جثة العربة "الكارو" على ثلاث عجلات خلا منها الهواء،
وفوقها جلس الرجل السيد، العربجى متجهما، يفكر، كيف يجعل العربة على ما يرام فى
غد؟
***
الظلام
غزا الأرض، فأسر الريح القوية، وكتم أنفاس السماء، فشحب لونها البهيج، وصارت
سوداء، وأرجف النجوم، فهربت وهى تتخفف من نورها المرتعش. والرجل السيد، العربجى،
يقلب يديه على قبس النار، ويأمر زوجته، عبدته: "هات لى الملح، وهات لى خبزك
العطن، آكل لقمة أسكت بها عويل بطنى فأنام". وقبل أن يرتد إليه طرفه يطاع،
تهمس زوجنه، عبدته: "هاك يا سيد، وهاك، هل من أمر جديد؟". فيحدجها
بعينين جمرتين، ثم يدفع من بين أسنانه كلمة ثقيلة: "غورى". تضربها
الكلمة بعزمها الحديد فى صدرها، بين نهديها، فتقع.
***
هذا
المصباح، الذى ينير، إذا شرب فى بطنه برميل جاز، نورا باهتا، معلق على جدار
الحظيرة، التى بها العربة "الكارو"، والعربة محملة على أربعة أحجار
ضخمة، والعجلات الثلاث فى أحد الأركان متجاورة، واحدة لم يزل يجافيها النوم: هذا
هسيس الليل يملأ قلبى وحشة، ترى فى أى بقعة من الأرض أنت الآن يا أختنا الرابعة؟
ها نحن قد صرنا هنا فى راحة، وتحررنا من كبسة هذه العربة على رقابنا، والفضل لك يا
عجلة يا حكيمة، فى الصباح لن نضطر للصحو مبكرا، فالرجل السيد كان يبكى وهو يتحسس
هذه الشقوق التى أصابتنا، هو قال إنه لم يعد لنا فائدة، المسكين يا زعيمة، من أول
بادرة تمرد استسلم!".
***
العجلة
الزعيمة، ملقاة على جانب طريق، أسفل شجرة،
وشريحة الهلال تفرفط فى يد الظلام، فلما ماتت، فتح الظلام بوابات النصر واسعة،
لكنه يرد ابن آدم المخلص على عقبيه عنها خاسرا، ويتهلل لمرأى اللص، ويبش الوجه
لابن الليل قاطع الطريق.
ـ
"ما أحلى الحرية، وما أسوأ ما حدث لى، ولا أفهمه، لقد فررت من العربة،
وانطلقت أجرى فى الشوارع، رأيت الناس، والأشياء، وأنا فى قمة الفرحة، فهذه أول مرة
أعيش وقتا لا أخاف فيه من أن يدفعنى هذا البغل، الغبى، إلى ما لا أحب، لكن سرعتى
كانت تتناقص، حاولت أن أسرع، لكنى كنت أتباطأ بلا إرادة، والآن أنا ملقاة فى سواد
ورهبة، والسعى إلى مكان ينيره مصباح شئ جميل، لكنى لا أستطيع الحركة، أنا أدفع
نفسى، لكن لا فائدة! هل هو الظلام قد جثم علىّ، كما جثم على كل الأشياء، فاضطرها
إلى الهجوع؟! لكنى أرى الذئب يجوس هناك، وها هى الفئران تتقافز حولى، وحول جذع
الشجرة.
وبجوار
العجلة، الزعيمة، دبَّت قدم اللص، فرأتها عين اللص، فقال لسان اللص: "هل لهذه
ثمن؟!". فأجاب عقل اللص: "رزق الليلة ضنك، وإن لم يكن منها فائدة، فلن
يكون الضرر". يد اللص القوية قبضت عليها، فأحست العجلة، الزعيمة، بارتياح:
"هذا رجل حنون، أشفق علىّ من برد الليل، وخوف الظلام، سيجعلنى عنده سويعات،
ويتركنى فى الصباح".
***
موكب
الشمس، الملكة، طلع من سماء الشرق، وهى من فوق عرشها تهب رعاياها البشر العطايا،
وعطاياها نور ودفء، فى صناديق متوهجة ترميها إلى بيت، ويكون لبيت الرجل السيد،
العربجى، صندوقان، تلقيهما عليه، يسقط أحدهما من شرخ فى الجدار على جفن العين
الشمال للسيد، ومن قوة "الهبدة" يفزع، فيقوم وهو يزوم، والصباح الأمير
يجوب الطرقات، يطرق أبواب البيوت، وكل باب بيت يطرقه طرقتين، فتفتح له الناس،
فيدخل وهو يقول: "أنا الأمير، صباح الخير".
وعلى
باب بيت الرجل السيد، العربجى، طرق طرقتين، فضرب الرجل عبدته، زوجته، فى ضلوعها،
وزعق: "قومى افتحى الباب للصباح".
الصندوق
الآخر يحوم حول الحظيرة التى بها العربة "الكارو" والبغل، فلا يجد إلا
هذه "الطاقة" الضيقة التى أعلى بابها، فينسل منها، فيحف عش العصفور، ثم
يسقط على الوتد المربوط إليه هذا البغل.
العصفور
لما يحف عشه هذا الشعاع المتوهج يصحو، ويتمطى، ويرفرف، ويشقشق،فتصحو العصفورة،
وتصحو كل عصافير الأرض.
والوتد
لما يهبط فوقه هذا الشعاع يبرق بريقا يصك عينى البغل فيصحو، هو هذا الصباح صحا،
ووقف، وهز جسمه ورأسه، وأطاح بشعر ذيله يمنة ويسرة، ومن منخريه طرد الهواء طردة
عنيفة لها صخب أيقظ هذه العجلات الثلاث النائمة.
ـ
"ياه يا ربى! لماذا صحونا وليس لنا اليوم عمل؟!"
ـ "أف، هذا البغل الغبى الحمار الذى لا يفهم أيقظنا.ـ تى را، تى را،
تى را را، ولكنى سعيدة، أخيرا لن نحمل على رقابنا هذه الجثة الخشب".
ـ
"لكننا ما زلنا تحت بصر الرجل السيد!"
ـ
"لا تقلقى، فلا خوف بعد الآن من الرجل السيد، ألم تسمعيه وهو يقول إننا لم
نعد نفده؟!"
ـ
"تى را تى رارا، ما أحلى النوم، تى رارا تى را، طول النهار"
ـ
"لكنى حزينة على اختنا الرابعة، أين ذهبت يا ربى؟!"
ـ
"شششش، سلسلة الحديد التى على الباب من الخارج تصرخ، الرجل السيد قادم".
***
لمَّا
صار موكب الملكة على الجحر الذى يسكنه اللص، سألت الشمس هذا الملك الذى عن يمينها:
"هل لهذا عطية؟". فأجاب المّلَك: "لا، فهذا جحر لا منفذ له لنهبه
منه العطية، حتى بابه مسدود بصخرة".
ـ
"وما هذا الشئ الذى أمام بابه؟!
ـ
"إنها عجلة عربة كارو".
قالت
الشمس: "سأمنحها إحدى العطايا".
ثم
ألقت إليها صندوقا متوهجا.
العجلة،
الزعيمة، رأت النور ففرحت، وأحست بالدفء فانتعشت: "هذه ليلة لا أنساها، الرجل
الحنون لم يكن حنونا، دخل بيته وألقانى هنا، فبالت علىّ الكلاب الضالة وذئاب
البرارى".
وسألت
العجلة نفسها: "لماذا لا أستطيع الحركة؟!".
وتذكرت
وقت أن كانت مثقلة بالعربة الخشب، وفوقها الرجل السيد الغليظ، كانت تجرى كالرهوان،
تذكرت هذا وتنهدت.
***
للبغل
أربعة أرجل يضرب بها الآن أرض الحظيرة، وينفر من منخريه الهواء، فتطير من
"المخول" أعواد التين الصغيرة، ويطوح ذيله، يريد أن يضرب به هذه الذبابة
التى تعضه بين فخذيه.
والرجل
السيد "العربجى"، قال للرجل السيد "التاجر": "بكم تشترى
هذه العجلات؟".
فحصها
"التاجر" فحص خبير، وقال: "بعجلة واحدة جديدة".
الرجل
السيد "العربجى"، نزع من أذنى زوجته، عبدته، قرطها الذهب، وقال:
"وبكم تشترى هذا؟".
فحصه
"التاجر" فحص لهفة، وقال: بعجلتين جديدتين".
والرجل
السيد "العربجى"، لما لم يبق له شئ يبيعه، أشار بسبابته إلى زوجته،
عبدته، وقال: "وبكم تشترى هذه؟".
ألقى
"التاجر" إليها نظرة الامتعاض، وقال: "مالى بها؟!".
فقال
الرجل السيد "العربجى" متوسلا: "خذها يا سيدى بعجلة واحدة
جديدة".
ولمَّا
صارت معه أربع عجلات جدد قال: "الآن عربتى الكارو تسير".
و"التاجر"،
على عربته المتهالكة، وضع العجلات التالفة، وفى جيب سرواله دس القرط الذهب.
***
اللص
زحزح الصخرة التى تسد باب جحره، ثم أطل على العالم الذى ملأه الصباح الأمير، فسرت
الراحة فى قلبه، وقال وهو يتمطى: "يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم".
وبطرف
عينه رأى العجلة وعليها قطرات الندى تبرق، فاتجه إليها، ورفسها بقدمة: "كان
رزق ليلة الأمس ضنكا".
ونفخ
هواء الزهق من فمه، العجلة آلمتها الرفسة القوية فصاحت: "أنت رجل جلف".
واللص
رفعها إلى كتفه، وقال: "أروح إلى السوق، وأبيعها لهذا الرجل الذى يحرق
العجلات التالفة، ويصنع منها عجلات جديدة".
***
صاحب
المحرقة، الذى له بطن يسع عشر بنايات ضخمة، والذى لع عينان ضيقتان كخرزتين، والذى
ثيابه مليئة بالألوان القاتمة، ألوان الزفت والهباب، اشترى من "التاجر"
كل حمولة العربة، تلك التى كانت ثلاث عجلات تالفة وامرأة، صاحب المحرقة رأى المرأة
عجلة غريبة الشكل، واشترى من اللص هذه العجلة التى لم يكن يعرف أنها الزعيمة،
وقال: "أفحصهم".
وبالفحص،
أدرك أن هناك عجلات قد خُرقت كل واحدة منها خرق واحد، وأن العجلة، غريبة الشكل، قد
خُرقت أكثر من خرق، وأن صفقته قد ربحت الربح الوفير بهذه العجلة التى يتحسسها،
الآن، تحسس الرفق، فهذه العجلة، الزعيمة، سليمة، لا خروق بها، وهى مكتملة بقلبها
الحديد، ومساميرها.
وضرب
صاحب المحرقة كفيه ببعضهما ابتهاجا، وقال: "أدهنها بالطلاء الأسود، فتبدو
كالجديدة، وأبيعها للمحتاج بثمن الجديدة".
وانتهى
الفحص إلى وجوب إشعال النار، وحرق العجلات التالفة، وبينها هذه العجلة التى لا
يعرف صاحب المحرقة نوعها.
***
صندوق
ضخم معدنه حديد، لونه بلون الليل البهيم، ونار لها ألسنة عظيمة، تتلوى تحته وحوله
كالأفاعى التى عاشت فى زمن الأساطير، وعينا الرجل برَّاقتان، تنظران إلى أول عجلة
ستقذف إلى هذا الجحيم.
العجلات
ترقب هذا الذى يحدث بانبهار ممزوج بعدم الفهم، وأيضا هكذا تفعل العجلة الحكيمة،
أما صاحب المحرقة، فقد مد يدا عفية، قبض بها على أول عجلة، وبالعزم الشديد ألقاها
فى الصندوق المشتعل، ومن الصندوق علت صرخة ملأت أرض العالم وسماءه، فسمعتها ملايين
العجلات التى كانت تدور على السكك، لكنها لم تبال، وظلت على السكك تدور.
أما
العجلات التى فى المحرقة، فقد أدركت أن داخل هذا الصندوق شيئا مؤلما، أشد إيلاما
من الصحو مبكرا، وحمل العربة الكارو على الأكتاف، والدوران بها إلى حيث يدفعها
البغل الغبى.
صرخات
هيستيرية تنبعث من الصندوق، هذا الشئ بالتأكيد أشد إيلاما، لأنها، وقت كانت تحمل
العربة، لم تصرخ واحدة منها مثل هذه الصرخات.
العجلة،
الزعيمة، انتحبت، وسبت نفسها: "يا عجلة يا غبية، يا عجلة يا وقحة، يا عجلة يا
وسخة".
أما
المرأة التى أمرها عجب، والتى كانت زوجة الرجل السيد "العربجى"، والتى
كانت عبدته، والتى هى الآن عجلة عربة كارو تالفة، فقد أمسكتها اليد العفية،
وألقتها فى الصندوق المشتعل، فصهرتها الحرارة، وقتلتها، لكنها لم تطلق أية صرخة.
دارت
اليد، وامتدت نحو العجلة الزعيمة، فجزعت: "هل حان دورى؟".
لكن
الأصابع الماهرة دهنتها بالطلاء الأسود، فلمعت، وهمست: "هل يعرف صاحب المحرقة
أننى المدبرة ويعدنى الآن لميتة أفظع؟".
ومن
عند الباب جاء رجل يسعى، وزعق: "يا أسطى، هل أجد عندك عجلة تصلح لعربتى
الكارو؟".
الرجل
"صاحب المحرقة" أشار إلى الزعيمة، وقال: "هذه تصلح".
الرجل،
السيد الجديد، "العربجى"، قلبها بين يديه، ومسحها بعينيه، وقال"
"كم ثمنها؟".
***
الوضع
لم يختلف كثيرا، غير أنها عربة كارو أخرى، وبغل آخر غبى، فها هو البغل يدس فمه فى
"المخول" المملوء بالتبن طول الوقت، وها هو عندما يطرد من منخريه الهواء
يطرده بقوة تثير غبارا كثيفا.
وفى
الصباح، قد يأتى السيد الجديد، ويزعق فى وجه كل الأشياء، مثله مثل السيد القديم،
وقد يضرب بكرباجه ظهر البغل هذه الضربة التى لها صوت انفجار قنبلة، وسيندفع البغل
جارا خلفه العربة فى الطرق العصية، لأدوس على حجر، أو لأسحق طوبة، أو لتهد هذه
المطبَّات اللعينة قوتى، ورغما عنى، أو برضاى، سأظل أدور فى الطرق... ربما هذا هو
حكم القدر، أنا أخال القدر وقد ربض هناك، خلف الغياهب القاصية، حيث لا أحد يراه،
وقد وضع العجلة القديمة، أُمَّنا، وتلا عليها حكمه: "رغما عنك تدورين، ورغما
عنك يدفعك البغل الغبى إلى ما لا تحبين".
قد
يكون الحكم عنيفا، لكنا يجب أن نمتثل، فهذا، على الأقل، أفضل من الحرق فى صندوق
جهم.
***
من
هودجها، على أكتاف الملائكة، كانت الشمس، الملكة، تنثر فوق الأرض عطاياها، وكان
الصباح الأمير، ذو الوجه المنير، يدور فى الطرقات، يطرق أبواب البيوت، كل باب بيت
يطرقه طرقتين، عندما انبثق فجأة هذا الجسد الهائل الحجم، وغطى ظله كل المدينة.
هذا
هو، صاحب المحرقة، قد تضخم بطنه حتى وسع القارات السبع، وعندما وقف، اخترقت رأسه
السماوات السبع، بينما كانت قدماه تغوصان فى الأراضين السبع.
وبيد
عتيدة ضرب الشمس، الملكة، ضربة قوية، فقتلها، وهشم عرشها، والأمير الصباح فر، وكان
الظلام.
صاحب
المحرقة يمد يدا يقبض بها على كل السيارات، وكل العربات الكارو، ويخلع منها
العجلات، ومن شاهق يلقيها، فتهوى إلى هناك. هناااك، إلى حيث، أسفل سافلين، تتأجج
نار هائلة، نار تأكل كل الأرض.
كانت
العجلة، الزعيمة، ترى هذا، كما رأت نفسها وهى تهوى وتهوى وتهوى، بينما تهرب من
صدرها الشهقة الأخيرة.

إرسال تعليق