U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

إنَّما الأعمال بالنيَّات

إنما الأعمال بالنيات

  

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

"صحيحُ البخاري" هو الكتابُ الأشهرُ عند المسلمين، يضُمُّ بين دَفَّتيهِ بضعةَ آلافٍ من الأحاديثِ النَّبويَّةِ الصَّحيحة، ويعتبرهُ المسلمونَ أصحَّ كتابٍ بعدَ القرآنِ الكريمِ.

أمَّا "فتحُ الباري"، فهو السِّفرُ الكبيرُ الذي شرحَ به الإمامُ ابنُ حَجرٍ العَسقلانيُّ الأحاديثَ التي جاءتْ في "صحيح البخاري"، ويقع في أكثرِ من عشرةِ مُجلَّداتٍ ضخمة.   

وأمَّا "النَّهرُ الجاري" فهي محاولتُنا هذه، المتواضعةُ، لتبسيطِ وتيسيرِ ما جاء في "فتح الباري" من تَشعَّبٍ وتَعمُّقٍ وتطويلٍ لا بُدَّ يشُقُّ ويصعبُّ على المسلمِ المُعاصرِ، المُعانِي بالأساسِ من قِلَّةِ الفراغِ للتَّعلُّم، والانشغالِ الدَّائمِ بتحصيلِ ما يُقيمُ أَودَهُ، ويصلحُ حالَ عيالِه.

و"صحيحُ البخاري" مُكوَّن من سِتٍّ وتسعينَ كتابًا، كلُّ كتابٍ مُقسَّم في أبوابٍ مختلفةِ العَدد، منها كتبٌ كَثُرَت أبوابُها وطالت، وكتبٌ قلَّت أبوابُها وقَصُرت.

 وأوَّل كتب "صحيح البخاري" هو كتاب: "بدءُ الوَحي". وكأنَّ المُصنِّفَ أراد القَولَ بأنَّ أوَّل الدِّين هو ذلك الرَّبطُ السَّمائيِّ الأرضيِّ الذي حَصَلَ بالوحي من اللهِ تعالى إلى نَبيِّهِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.

وآخرُ كُتبهِ هو "الاعتصامُ بالسُّنةِ"، وكأنَّ المُصنِّفَ أراد القَولَ بأنَّ دوامَ الدِّينِ وبقاءَه لن يكون بغير الاعتصامِ بسُنَّةِ النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، لتكون خاتمةُ كتابِه المبارك أشبَهَ بالوصيَّةِ المُوجَّهةِ لعموم المُسلمين.

وقد كان الإمامُ البُخاريُّ رتَّب أحاديثَ صَحيحِه على نهجٍ فِقهيٍّ ربما استعانَ معهُ بالحديثِ الواحدِ كاملًا أو مُجتزءًا في أبوابٍ عديدةٍ، فرأيتُ هذا مُجهِدًا للقارئ، فقَرَّرتُ ما أسألُ اللهَ معه أن يكون مريحًا مُفيدًا للقارئ، وهو جمع الحديثِ بأطرافِه في ترتيبٍ متوالٍ داخل البابِ المُختص بموضوعِها، وسيُمكِّن هذا التَّرتيبُ الجديدُ القارئَ من إجراء مُقارنَة فَوريَّة بين السِّياق في الحديثِ وأطرافِه، وبين الألفاظِ فيها، وربما الحالاتِ.

واللهُ المُستعان

 

 الكتابُ الأوَّل: أحاديثُ الوحي

باب 1 : إنَّما الأعمال بالنيَّات

 

1 ـ حدَّثنا الحُمَيديُّ عبدالله بن الزُّبير، قال: حدَّثنا سفيان، قال: حدَّثنا يحيى بن سعيد الأنصاريُّ، قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التَّيميُّ أنَّه سمع علقمة بن وقَّاص الليثيَّ يقول: سمعت عمرَ بن الخطَّاب، رضي الله عنه، على المنبر، قال: سمعتُ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: "إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوَى: فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبُها، أو إلى امرأةٍ ينكِحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

حديث 1 ـ كتاب بدء الوَحي ـ باب 1؛ كيف كان بدء الوَحي إلى رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

2 ـ حدَّثنا عبدالله بن مَسلَمة، قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمَّد بن إبراهيم عن علقمة بن وقَّاص عن عمرَ أنَّ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: "الأعمال بالنيَّةِ، ولكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". 

حديث 54 ـ كتاب الإيمان ـ باب 41؛ ما جا إنَّ الأعمال بالنيَّة والحسبة.

      

3 ـ حدَّثنا محمَّد بن كثير عن سفيان، حدَّثنا يحيى بن سعيد عن محمَّد بن إبراهيم التَّيمي عن علقمة بن وقَّاص الليثيِّ، قال: سمعتُ عمرَ بن الخطَّاب، رضي الله عنه، عن النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: "الأعمال بالنيَّة، ولإمرىٍ ما نوَى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبُها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". 

حديث 2529 ـ كتاب العِتق ـ باب 6؛ الخطأ والنِّسيان في العتاقة والطَّلاق ونحوه.   

  

4 ـ حدَّثنا مُسدَّدٌ، حدَّثنا حمَّاد (هو ابن زَيد)، عن يحيى عن محمَّد بن إبراهيم عن علقمة بن وقَّاص، قال: سمعتُ عمرَ، رضي الله عنه، قال: سمعتُ النبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أراه يقول:"الأعمال بالنيَّة، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم". 

حديث 3898 ـ كتاب مناقب الأنصار ـ باب 45؛ هجرة النَّبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، وأصحابه إلى المدينة.  

     

5 ـ حدَّثنا يحيى بن قَزَعة، حدَّثنا مالكٌ عن يحيى بن سعيد عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث عن علقمة بن وقَّاص عن عمر بن الخطَّاب، رضي الله عنه، قال: قال النَّبيُّ، صلَّى الله عليه وسلَّم: "العمل بالنيَّة، وإنَّما لإمرىء ما نوَى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبُها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". 

حديث 5070 ـ كتاب النكاح ـ باب 5؛ من هاجر أو عمل خيرًا لتزويج امرأة فله ما نوى. 

  

6 ـ حدَّثنا قتيبة بن سعيد، حدَّثنا عبدالوهَّاب، قال: سمعتُ يحيى بن سعيد يقول: أخبرني محمَّد بن إبراهيم أنَّه سمع علقمة بن وقَّاص الليثيّ يقول: سمعتُ عمرَ بن الخطَّاب، رضي الله عنه، يقول: سمعتُ رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، يقول: إنَّما الأعمال بالنيَّة، وإنَّما لامرئٍ ما نوَى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبُها أو امرأة يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".  

حديث 6689 ـ كتاب الأيمان والنُّذور ـ باب 23؛ النيَّة في الأيمان.  

    

7 ـ حدَّثنا أبو النُّعمان، حدَّثنا حمَّاد بن زَيد عن يحيى بن سعيد عن محمَّد بن إبراهيم عن علقمة بن وقَّاص، قال: سمعت عمرَ بن الخطَّاب، رضي الله عنه، يخطب، قال: سمعتُ النبيَّ، صلَّى الله عليه وسلم، يقول: "يا أيُّها النَّاس، إنَّما الأعمال بالنيَّة، وإنَّما لامرئٍ ما نوَى: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبُها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".  

حديث 6953 ـ كتاب الحِيَل ـ باب 1؛ في ترك الحِيَل، وأنَّ لكلِّ امرئٍ ما نوَى.  

    

و"ينكِحُها" من نكَحَ.

"ينكَحُ" : نِكاحًا . فهو : ناكِحٌ؛ وهي : ناكِحٌ، وناكِحةٌ.

والمفعول : مَنكوحٌ.

 

و : "نكحَ" المرأةَ : تزوَّجها. 

و : "نَكَحتِ" المرأةُ : تزوَّجتْ، فهي : ناكِحٌ، وناكِحةٌ.

 

ومفردة النِّكاح لا تعني الزَّواجَ فقط، بل لها معانِيَ أخرى، مثل : الاختلاط.

فيُقال : نَكَحَ المطرُ الأرضَ. أي: اختلطَ في ترابِها.

ومثل : الغَلبَة.

فيقال: نكحَ النُّعاسُ عينًيه. أي: غلبَهُ عليهِما.

و : نكَحَهُ الدواءُ. أي: غلبه.

 

و : الرَّجلُ كثيرُ النِّكاح : نُكَحٌ.

و : الزَّوج : النِكْحُ ،   و : الزوجة : النِّكْحةُ.

 

أمَّا النِّيَّةُ، فهي : القصد . الذي هو : توجُّهُ النِّفس .

قال النَّوويُّ: النيَّةُ القصدُ، وهي عزيمةُ القلبِ.

وقال البيضاويُّ: النيَّةُ انبعاث القلبِ نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ من جلبِ نفعٍ، او دفعِ ضُرٍّ، حالًا أو مآلًا.

ولا عملَ يؤديهِ الإنسانُ، في أيِّ زمانٍ أو مكانٍ، إلَّا بقصدٍ. لحاجةٍ. لهدفٍ. وجميعها : نِيَّة.

فقال العسقلانيُّ: النيَّةُ تُميُّز العملِ للهِ عن العملِ لغيرِه، وتُميُّزُ مراتبِ الأعمالِ كالفرضِ عن النَّدبِ، وتُميِّزُ العبادةِ عن العادةَ.

وقال: ذكر ابنُ المنير ضابطًا لما يُشتَرطُ فيه النيَّةُ ممَّا لا يُشترط، فقال: كلُّ عملٍ لا تظهرُ له فائدةٌ عاجلةٌ، بل المقصود به طلب الثَّواب، فالنيَّةِ مُشتَرَطةٌ فيه، وكل عملٍ ظهرت فائدتُه ناجزة، وتعاطته الطبيعةُ قبل الشَّريعةـ لملائمةٍ بينهما، فلا تُشتَرَطُ النيَّةُ فيه، إلَّا لمن قصدَ بفعلِهِ معنى آخرَ يترتَّبُ عليه الثَّوابُ.

أقول: أرى أنَّ النيَّة للهِ ورسولِه، بالنِّسبةِ للمسلم، مُشتَرطَةٌ في عباداتِه وعاداتِه، و في ما تعاطته الطَّبيعةُ والشَّريعةُ، وقد قال اللهُ تعالى مُخاطبًا النَّبيَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، في الآية 162 من سورةِ الأنعام: {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحيايَ ومَماتِي للهِ ربِّ العالمينَ}، فأوضحتِ الآيةُ أنَّ النيَّة للهِ واجبةٌ في العباداتِ، مثل الصَّلاةِ والنُّسكِ، وفي العاداتِ، التي هي المَحيَا والمَمات.

 

فخطبَ عمرُ بن الخَطَّاب، رضي الله عنه، على المِنبر.

والمنبرُ المقصود هو منبر المسجد النَّبوي.

وهذا يعني أنَّ عُمرَ أخبرَ بهذا الحديث في أحدِ أيَّامِ خلافتِه؛ فلم يُعلَم أنَّه خطبَ على المِنبرِ أيَّامَ النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا أيَّامَ الخليفةِ الأوَّل أبي بكرٍ الصِّديق، رضي الله عنه.

وكانت نِيَّةُ عُمرٍ، بتلك الخُطبةِ، حَضَّ النَّاسِ على الاهتمامِ بإحسانِ النِّيَّةِ قبلَ إحسانِ العمل، فتكونُ خالصةً للهِ، عزَّ وجلَّ، ولرسوله، صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه.

 

ما الفرقُ بين النِّيَّةِ خالصةً للهِ تعالى ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وبينها دون ذلك؟

الفرقُ كبير.

كأنَّه الفرقُ بين الماءِ يجري على سطحِ أرضٍ مُستويةٍ، لا عمقَ لها، فيتبعثَر ويتبخَّرَ سريعًا، وبينه جاريًا في وادٍ عميقِ، فيُجمَعُ ويُحفَظ. لا نفعَ يُرتَجى منه في حالتِه الأولى، ويُرتَجى منه كُلُّ النَّفع في الحالةِ الثَّانية.  

أيضا: المالُ المكشوفُ تَسهُلُ سَرقتُهُ، أمَّا المالُ في خزانةٍ، فتَصعُبُ سرقتُهُ.

على ما سبق، فالعملُ ذو النيَّةِ الخالصةِ للهِ ورسولِه دائمًا ما يُثمِرُ خَيرًا عميمًا في الدُّنيا قبل الآخرة. مثلًا:

خرج إنسانٌ من بيتِهِ قاصدًا عملَه، وقد نَوَى أن يكون يومُهُ لله، تعالى، ولرسوله، صلَّى اللُه عليه وسلَّم، فلا يُتوقَّع لهذا الإنسان، مهما واجَهَ من مَصاعبٍ، سوى تلقِّيها بقلبٍ قَويٍّ.

ومهما واجه من مُغرياتٍ تُحرِّضه على السُّقوط، فإنَّه يتلقَّاها بقلبٍ أمينٍ.

مثل هذا الإنسان لن يُصابَ يومًا باكتئاب، لأنَّه يدرك مع كل شعورٍ بنقصٍ يعتريه أنَّه محط اختبار إلهيٍّ، وأن النَّقصَ سؤالٌ إيمانيٌّ مُوجَّهٌ له من قِبلِ الله، وأنَّ عليه اختيار الإجابة الصَّحيحة، التي هي: "الرِّضا بأقدارِ الله مهما بدتْ قاسية"؛ ثُمَّ بعد ذلك عليه السَّعيُ في استكمالِ نقوصاتِه بثقةٍ وصبرٍ، كما علَّمه الله.

هذا الإنسان لن يهتزَّ إزاء الفارقِ بين مستواه المادِّيِّ، مهما كان مُتدنِّيًا، وبين مستوى الأثرياء، فبنيَّته الخالصة للهِ ورسوله يُدرِك أنَّ العطاءَ من اللهِ، وأنَّ الاعتراضَ على عطاءِ اللهِ من الموبقاتِ، التي أبسطُ شرورِها فتح أبوابِ الحسد. والحسدُ سببُ الجريمةِ الأولى التي وقعتْ على الأرض، عندما قتل قابيلُ أخاه هابيل حَسَدًا.

هكذا، يتمتَّعُ الذي أضمَرَ النيَّةَ لله ولرسوله، في ابتداءِ يومِه، بثباتٍ نَفسيٍّ عظيم.

أمَّا من يبدأ يومَه بدون نيَّةٍ سليمةٍ، فيعاني ما يواجهه من صعوباتٍ مُتذمِّرًا، معترضًا على حالِه، الفوارق بينه وبين غيره تُمثِّل له هَمًّا وعائقًا، إذا كانت لصالحه اغتَرَّ وفَجَر، وإذا كانت لصالح غيرِه انكسرَ وانقَهر، فمثل هذا الشَّخص مزعزع النَّفسِ، أقربُ النَّاسِ إلى ارتكاب جريمة في حقِّ نفسِه، أو في حَقِّ غيرِه.

إنَّه مُستنقعٌ صالحٌ لكُلِّ الأوبئةِ النَّفسيَّةِ، فربما اكتئبَ فقط فتفسد حياتُه، وربما انتحر ليتخلَّصَ من حياتِه بالكُلِّيةِ.

وصاحبُ النيَّةِ السليمةِ لا ينكسر، ولا يُذَل، فهو يعلم أنَّ كلَّ شيءٍ من الله، وهو مُكافأٌ على كُلِّ حالٍ، إذا أصابه خَيرٌ شَكَر، فرضي اللهُ عنه وأرضاه، وإذا أصابَهُ شَرٌّ صَبرَ، فرضي اللهُ عنه وعوَّضه؛ كما يعلمُ أنَّ ما أصابَه ما كان ليُخطِئهُ ولو اجتمعَ أهلُ الأرضِ على إزاحته بَعيدًا، وأنَّ ما أخطأهُ ما كان ليصيبَه ولو اجتمعَ أهلُ الأرضِ لغيرِ ذلك؛ فعلامَ الذِّلَّةُ والانكسار!

أمَّا من لا نيَّةَ سليمةَ له، فما أسهل انكسارَه وإذلالَه، بل قد يذِلَّ نفسَه للغَير قبل إذلالِ الغيرِ له، عندما يصوِّرُّ له الشَّيطانُ أنَّ فلانًا، أو عِلَّاًنا، يمكنه نفعَه، أو يمكنه الإضرارَ به، فيتملَّقه رغبةً أو رهبةً، يمسح له الجوخَ، ومهما عرَّضه للأمور المُهينةِ تعرَّض دون اعتراض! وقد تصلُ الأمورُ المهينةُ إلى انتهاك عِرضِه، فيقبل الدَّياثةَ إذا ظنَّها تمنحه مكسبًا، أو تدفع عنه خسارةً.

وصاحب النيَّةِ السَّليمةِ المُرتبطةُ باللهِ ورسولهِ يعرفُ أنَّ اللهَ سائلهُ عن زوجتِه وعيالِه، فيتحمَّل مسؤوليَّتَه بأمانةٍ، يُحسنُ إلى زوجتِه مهما أساءتْ، حتَّى إذا لم يستطع المواصلةَ معها أحسنَ فراقَها، ويُحسِنُ إلى أولادِه، فيُربِّيهم أفضلَ تَربيةٍ، لا بالأكلِ والشَّرابِ فقط، ولكن بالدِّينِ والعلمِ كذلك.

أمَّا الآخر، فبعيدٌ عن اللهِ، ولا رسولَ يخشى في الآخرةِ لقياه، فيعامِل زوجتَه وعيالَه معاملةَ الحيوانِ لوليفتِه وصغارِه، همُّه الأكبرُ تغذيتُهم ولو من الحرام، لا يضعُ في قلوبِهم دينًا أو إيمانًا، بل يصُبُّ فيه من الدُّنيا ما لا يملؤها مهما صبَّ.

فلا سلامةَ لأهل الدُّنيا مهما بدا لرآئيهمُ أنَّهم في بحبوحةٍ من العيشِ وسلامةٍ.

وهكذا، في كلِّ الشُّؤونِ من بيَّتوا النيَّةَ للهِ ورسولِه همُ الفائزون.

وهذا الحديثُ ليس مُتواتِرًا، أي لا ترويهِ مجموعةٌ رواةٍ عن مجموعةِ رواةٍ، بل رواه يحيى بن سعيد وحدُهُ عن محمَّدٍ بن إبراهيم، ورواه محمَّدٌ وحدُهُ عن علقمةِ، ورواه علقمةُ وحدُهُ عن عمرِ بن الخطَّاب صاحب الخَبَر، فالحديثُ على ذلك حديثُ آحادٍ.  

وللحديثِ سِتُّ رواياتٍ أخرى، لستَّةِ مُحدِّثين أُخَر، وزَّعها البخاريُّ في أبوابِ وكتبِ صحيحه، اختلفت قليلًا في اللفظِ، لكنَّها اتَّفقت على ذكرِ ما لم يتِمَّ ذكرُّه في هذا الحديث: الهجرةُ إلى اللهِ ورسولِه. ففي هذا الحديث الأوَّل، برواية الحُمَيديِّ، تقريعٌ فقط لصاحب النيَّة المُنتقَصَة، الذي يهاجرُ لدنيا يُصيبُها او امرأةٍ ينكِحُها، فيما الرِّوايات السِّتة الأخرى، لغير الحُمَيديّ، فجميعُها أشارَ إلى صاحبِ النيَّةِ السَّليمة: المُهاجرُ إلى اللهِ ورسولِه.

 

نسأل: حيازةُ الدُّنيا، أو الزَّواج، ليسا بالأمرِ المشين إذا تمَّا بما أحلَّهُ اللهُ، فلِمَ وُضِعا في الكِفَّةِ غير الرَّاجحةِ من الميزانِ؟

وقد تكون الإجابةُ: مع أنَّ حيازةَ الدُّنيا والزَّواجَ أمرانِ مُقوِّيان للمسلم، يحُضُّ عليهما الإسلامُ، إلَّا أنَّهما أمرانِ غيرُ مَحفوظَين إذا لم يتحَصَّلا بنيَّةٍ سليمةٍ، فالهجرةُ إلى اللهِ ورسولِه دينٌ يضمنُ حيازةَ الدُّنيا والزَّواجَ إذا سعى إليهِما المُسلمُ سعيَهما، إلَّا أنَّ حيازةَ الدُّنيا والزَّواجَ بدون نيَّةٍ سليمةٍ فهما دنيا لا تضمن دينًا؛ ومن ضاع دينُه خسرَ كلَّ شيءٍ.

 

 لِمَ خُصَّتِ المرأةُ (بنكاحِها)، دون أمور الدُّنيا الأخرى، دالَّة على مُكوِّنات النيَّةِ المُنتقَصَةِ في هذا الحديث؟

روى الإمامُ ابنُ حجرٍ العسقلانيُّ عن ابن دقيقِ العيد في شرحِهِ الحديثَ: نقلوا أنَّ رجلًا هاجرَ من مكَّةِ إلى المدينةِ، لا يريدُ بذلك فضيلةَ الهجرةِ، وإنَّما هاجرَ ليتزوَّجَ امرأةً تٌسمَّى أُمُّ قَيس.

وروى عبدُالله بن مسعود، قال: من هاجرَ يبتغي شيئًا، فإنَّما له ذلك؛ هاجرَ رجلٌ ليتزوَّج امرأةً يُقالُ لها أُمُّ قيسٍ، فكان يُقالُ له: مهاجرُ أُمّ قيس.

ونُقِلَ بلفظٍ آخر: كان فينا رجلٌ خطبَ امرأةً يُقالُ لها أُمُّ قيسٍ، فأبتْ أن تتزوَّجَه حتَّى يهاجرَ، فهاجرً، فتزوَّجَها، فُكنَّا نسمِّيهِ مُهاجرَ أُمّ قيس.

 لهذا خُصَّ في الحديثِ ذكرُ المرأةِ دون سائر ما يُنوَى به.  

 

قيل: إنَّ الحديثَ، وهو عن النيَّةِ، غيرُ مناسبٍ لكتابِ "بدءُ الوحي"، فلمَ رتَّبهُ البُخاريُّ في هذا الكتاب؟

أجاب العلماءُ بلفظِ الإمام ابن حجرٍ العسقلانيِّ، فقيل: لم يقصدَ البُخاريُّ بإيرادِه سوى بيانِ حُسنِ نيَّتِه فيه، في هذا التَّأليف.

أقولُ: أي: افتتحَ البخاريُّ صحيحَه بحديثِ النيَّاتِ ليقول إنَّ نيَّتَه في تصنيفِ هذا الكتاب إنَّما هي للهِ ورسولِه، وها هو الكتابُ يَعدُّه المسلمون (السنَّةُ) في كُلِّ الأزمنةِ والأمكنةِ كتابَهم الثَّاني بعد كتابِ الله: القرآن؛ وهو الإجلال الذي يُعدُّ الثَّمرةُ اليانعةُ التي تُثبِت صدقَ وإخلاصَ نيَّةِ البخاريِ، رضي الله عنه.

ثُمَّ أوردَ العسقلانيُّ إجابةً أخرى، قال: عن أبي عبدالملكِ البوني، قالَ: مناسبةُ الحديثِ للتَّرجمةِ أنَّ بِدءَ الوحي كان بالنِّيَّةِ، لأنَّ اللهَ تعالى فطرَ مُحمَّدًا على التَّوحيدِ، وبغَّضَ إليه الأوثانَ، ووهبَ له أوَّلَ أسبابِ النَّبوُّةِ، وهي الرُّؤيا الصَّالحة، فلمَّا رأى ذلكَ أخلصَ إلى اللهِ في ذلك، فكان يتعبَّدَ بغارِ حِراء، فقبلَ اللهُ عملَهُ وأتمَّ له النِّعمةَ.

وقال المُهلَّبُ ما مُحصِّلُه: قصدَ البُخاريُّ الإخبارَ عن حالِ النَّبيِّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في حالِ منشِئه، وأنَّ اللهَ بغَّضَ إليه الأوثانَ، وحَبَّبَ إليه خِلالُ الخيرِ ولزومَ الوحدةِ فِرارًا من قُرناءِ السُّوء، فلمَّا لزم ذلكَ أعطاهُ اللهُ على قدر نِيَّتِه، ووهبَ له النُّبوَّةَ. كما يُقال: الفواتحُ عنوانُ الخواتِمِ.

وقال ابنُ المُنير: كان مُقدِّمةُ النُّبوَّةِ في حقِّ النَّبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، الهجرةَ إلى الله تعالى بالخُلوةِ في غارِ حراءٍ، فناسبَ الافتتاحُ بحديثِ الهجرةِ .

 

ذِكرُ ما أوردَه العَسقلانيُّ في "فتح الباري" بخصوص تمَيُّز حديث النيَّةِ:

تواتَرَ النَّقلُ عن الأئمَّةِ في تعظيمِ قدرِ هذا الحديث، فقال بعضُهم: ليس في أخبارِ النَّبيِّ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، شيءٌ أجمع وأغنى وأكثر فائدةٍ من هذا الحديث.

وقال بعضُهم: ينبغي أن يُعدَّ (هذا الحديث) نصفُ الإسلام؛ وذلك لأنَّ: الفعلُ إمَّا عن قصدٍ واختيارٍ، أو لا. فنصفٌ ونصف.

وقال بعضُهم : إنَّ هذا الحديثَ ثُلثُ الإسلام. وذلك لأنَّ: كسبَ العبدِ يقعُ بثلاثة أشياء: بقلبِه (وهو موضع النيَّة) ولسانِه، وجوارحِه؛ فالنيَّةُ أحدُ أقسامِها الثَّلاثةِ وأرجحُها، لأنَّها قد تكون عبادةً مُستقلَّةً وغيرُها يحتاجُ إليها. ومن ثَمَّ ورد: نيَّةُ المؤمنِ خيرٌ من عملِه، فإذا نظرتَ إليها كانت خيرَ الأمرَين.

ومنهم من قال: ربُعُه.

وقال بعضُهم إنَّ هذا الحديثَ يدخلُ في ثلاثين بابًا من العلمِ. وقيل: يدخلُ في سبعين بابًا.

وقال بعضُهم: ينبغي أن يُجعَلَ هذا الحديث رأسُ كُلِّ بابٍ.

وأمَّا الإمامُ أحمد عندما اعتبر هذا الحديث ثلثَ العلمِ، فذلك لأنَّه: أحدُ القواعدُ الثَّلاث التي تُرَدُّ إليها جميعُ الأحكامِ عنده، وهي: هذا الحديث (حديثُ النيَّةِ) ، وحديث: (من عَمِلَ عملًا ليس عليه أمُرنا فهوَ رَدٌّ)، وحديث: (الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيَّنٌ ...).

 

أقول: ينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يجعلَ هذا الحديث رأسُ كلِّ يومٍ يعيشه، فيحفظه، حتى إذا ما استيقظ من نومه راجعه على نفسه، ففيه العلاجُ النَّاجعُ لما يعرِض للنَّفسِ من فسادٍ، والعلاجُ النَّاجعُ للفسادِ المُستشري بين العبادِ في البلادِ.

 

انتهى

 


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة