الجبريلية
مقولة
منسوبة لمحارب قديم..
"في
أراضي الحروب نكون زرع الموت، هو يرعانا، حتى إذا طبنا، وجاء موسم الحصاد، بمنجله
يحشنا، فيا وطنا لا يرفع رأسه إلا الدم، ادخل الجنينة المسحورة، وحارب فيها
العفاريت والجن، واغرف بيدك، من نهر الحياة، غرفة، ورشها على وجوهنا، لتعود لنا
الحياة، كي نراك كيف صرت جميلا بعد ان رفعت رأسك".
حزن
السماء، والأرض.
خمسة
كؤوس خمرة شربتها هذه النسمة فسكرت، وزين لها السكر ان تلهو، فقالت: ألهو.
في
هذا اليوم كانت هي المكلفة بأجواء هذه القرية، وكان معروفا عنها، بين قومها من
الريح، أنها عابثة، ماجنة، مخادعة، ولم يكن غير أهلها، من الريح، يعرف هذا.
دارت،
هذه النسمة، بين شواشي النخيل، وقالت لها كلاما.
وتسكعت
في الشوارع الضيقة، تتمسح في جدران البيوت الطين، وتقول لها كلاما.
وتمرغت
في تراب الأرض، وقالت له كلاما.
ثم
إنها تصعدت إلى السماء، التي صفت، وقالت لها كلاما، لكن السماء أربدت، لأن كلام
النسمة كان لا بد شرا، فحتى شمس العصاري، الرقيقة، عندما سمعته نزلت من فوق فرسها،
الذي تتجول به، وجرت إلى خلف جبال الغيم، وأخذت تبكي، لتسقط دموعها، فتبلل الزروع
الواقفة في الحقول.
وثمة
كلب يمشي في الشارع الملتوي على مهل، رأسه يدور في كل الجهات، متعجبا من عساكر
الكآبة التي انتشرت في جو القرية. لم يكن يعلم السر، لأن النسمة العابثة لم تكن
قالت له كلامها.
اقترب
من جدار يميل، ورفع رجله ليبول، فكرمش الجدار وجهه، وزعق فيه، فقفز إلى منتصف
الشارع وهو يزوم مندهشا، ومضى إلى جدار آخر، ورفع رجله، لكن الجدار الآخر صرخ في
وجهه أيضا.
لقد
عملتها كل الجدران مع الكلب المزنوق، فاضطر إلى ان يجري باتجاه شرق القرية، حيث
الحجر، الضخم، المغروس نصفه في بطن الأرض.
وكشف
الحجر الضخم للكلب، بصوت وقور، عن سر هذا الحزن، الذي ركب السماء، والأرض: صاحبك
"جبريل" أكلته الحرب.
الصفحة
الأولى من مذكرات الكلب.
أتذكر
هذه الريح العاصفة، التي ضربت القرية في ليلة مضت مع الزمن. كانت البيوت قد نشبت
أصابعها في الأرض، تتشبث بها كي لا تطير في الهواء، والنخيل يتقوس، يقاوم وهو يسب،
وشجر ينوح، وأنين يرتفع من الغيطان، يضيع في صرخات الريح المجنونة. وأنا بين أعواد
الحلفاء الكثيفة، أنظر إلى هذا الكون الغاضب نظرات البراءة الأولى لجرو وليد،
تكورت حول نفسي، أرتعش، وأعواد الحلفاء تهوي على ظهري فتلسعني، فأطلق نباحا قصيرا،
خافتا.
وعندما
طل وجه الفجر الطيب هدأت الريح، فلبست السماء فستان البهجة، وطيور، صغيرة الحجم،
خرجت من مكامنها تطير، وتشقشق، ونادتني حشائش الحقول، وقالت: هذا هو العالم الآن،
رقيق، ووديع.
كان
لا بد من أن أخطو إلى الطريق، فمشيت بوجل، وبدهشة نظرت إلى الأشياء، حتى لاقتني
شجرة "الجميز" العجوز، وقد انتشرت فروعها اليابسة، حتى إنها غطت السماء،
قالت لي: في هذا العالم أنت بمأمن من كل الأشياء إلا اثنين: الذئب، وابن آدم.
الذئب يبقى يكيد لك حتى ينهش كبدك، أما ابن آدم فإنه أبشع، لأنه هو الذي يكيد
للذئب، فإذا رأيته اختبئ، فربما إذا رآك أكلك.
كنت
جروا، فلم أفهم حكمة الشجرة العجوز، ولم أحذر السير في الطريق، فتلقفتني، فجأة،
قبضة عفية، أحسست بها تضغط على رقبتي، وترفعني، وكتلة عجيبة الشكل، لها عينان،
وأنف، وفم، تنظر إلي.
دق
قلبي، وضرب ضلوعي، فنبحت نباح الفزع، وثمة يد أخرى تدنو من رأسي، وعندما فتحت فمي،
لأنشب فيها أنيابي، لطمت صدغي بعنف، فعرفت أنه قد أحدق بي الخطر، وأنه لا مهرب لي،
فعويت عواء الذل، فربما هذا هو الذئب، الذي سينهش كبدي، وربما هو ابن آدم، الذي
سيأكلني.
المطر
يساقط، والرعد يزأر، والشمس غير معروف إن كانت في السماء أم إنها رحلت، فالنور
خافت، والحقول داكنة، وعوى الكلب: كان هو البشري الحنون "جبريل".
ساخت
أعصاب الكلب فلم يقدر على مواصلة الوقوف، فجلس مكانه، ولف ذيله بين ساقيه، بينما
تدلت أذناه على جانبي رأسه، وعيناه انكسرتا، وترقرقت فيهما دموع، وصدره علا، وهبط:
ترى ما هي هذه الحرب التي يمكنها أن تأكل "جبريل"؟ "جبريل"
الذي يأكل كل الأشياء، ويكيد للذئب.
نخلة
دافئة في زمن آت.
المحارب
المنتصر يعود وحيدا إلى القرية، لم يعد معه "جبريل"، لكن الأرض المسلوبة
عندما نادت قال: "حاضر". وقال "جبريل": "حاضر".
وخرجا معا من القرية، فكيف يعود وحده الآن؟ وهل بعودته، وحيدا، ستفرح البيوت؟
"قبيصي"
المنتصر يخطو إلى القرية بخطى المنهزمين، وفوقه سماء مشحونة سحبا، وصمت البشر يعم.
سأقول
لـ"حكومة": يا خالة "حكومة" "جبريل" مات رجلا.
ـ
مات شهيدا يا "قبيصي"؟
سأقول
لـ"حكومة": هو الآن يطير في سماء الجنة.
ـ
مات شهيدا يا "قبيصي"؟
سأقول
لـ"حكومة": نعم يا أم "جبريل".. مات شهيدا.
ـ
دفنته يا "قبيصي"؟
سأقول
لـ"حكومة": ودفنت معها نواة بلح، وبآخر قطرات ماء متبقية في
"الزمزمية" بللتها، ستخرج يا خالة "حكومة"، في الزمن القادم،
من جسد "جبريل"، نخلة دافئة تسكنها كل عصافير العالم، ويعشش فيها كل
اليمام.
نصف
ساعة موت.
قال
القائد: موقع العدو وحش رابض، حوله أرض براح، مزروعة نارا، تهب فجأة، تشوي ابن
الإنسان، مخترق هذه الأرض، ليس مهما إن كان ابن الإنسان هذا على حق أم لا، فهي نار
مسخرة، حشاها ابن إنسان آخر في الحديد فصارت كعفاريت القماقم، تلبي من يناديها من
غير تفكير، الموقع مفتوح من ناحية واحدة، مدخله، لذلك الخطة بسيطة، والتنفيذ يجب
أن يكون دقيقا، وسريعا، والقلوب لا بد من أن تكون حديدا، والروح تحب الله، لأنكم،
عند الله، تكونون عصافيرا خضرا، تطوفون حول عرشه، وترفرفون في كل سماوات الجنة.
صوت
محرك العربة "الزيل" ينسل هادئا، ينبثق من كشافيها نور أزرق شاحب، بينما
تزحف كسلحفاة.
السماء
سوداء، والنجوم تبرق، ولم يكن القمر، فبدت الصحراء معتمة، وبين حين وحين يقطع صمت
السكون انفجار دانة، أو فرقعة قنبلة، رشاش بعيد يصرخ ثم يصمت، خمستنا في الصندوق
الخلفي للعربة، تغطي العتمة وجوهنا.
قال
القائد: موقع العدو تدميره لا بد منه، وإلا سيبقى ثغرة خطر في ظهر جيشنا.
رغم
الليل كنا نستطيع رؤية هياكل سيارات، ودبابات، أكلتها النيران حتى تفحمت، وكنا نرى
أجساما ضئيلة، تميل إلى البياض، تجري فزعة.
إنها
أرانب الجبل.
لا
بد من أن مئات منها قد مات محترقا، أو دهستها جنازير المدرعات وهي تدوس جحورها.
لكم
كنت أتمنى ان أعرف إلى أي مدى تفهم، هذه الأرانب، الحرب الدائرة الآن!
والغزلان!
عبرت
العربة أحد المطبات الصخرية الحادة فارتجت، و"جبريل"، القابع في ركن
الصندوق ارتج، وقد رفرف الظلام، حول وجهه، فلا أراه.
كان
الخبر قد جاء لـ"جبريل"، من البلاد العمرانة، بأن زوجته حبلى، فابتسم،
وقال: يا رب ولد.
قال
القائد: ستقف العربة بعيدا عن موقع العدو، سنكمل المسافة الباقية سيرا على الأقدام
في صمت، وعندما نصير تحت مرمى البصر سنزحف على بطوننا، بقدر الإمكان لا تثيروا
الغبار، سيتجه "خليل" إلى غرب الموقع، و"كرم" إلى شرقيه،
سيطلقان النار على أي هدف متحرك.
نظر
إليهما، واستدرك: مهمتكما صعبة، فالمسافة بينكما والموقع كبيرة، وملغمة، لذا دققا
التصويب.
"جبريل"،
و"قبيصي"، سيفتحان النار، على مدخل الموقع، بتركيز شديد، وهما يتقدمان
إلى فتحة الدخول.
نظر
إليهما، واستدرك: كونا على حذر.
نظر
إلى "زناتي"، وقال: مهمتك غاية في الخطورة، ستنسف بـ"الآر بي
جيه" المدفعين المنصوبين أعلى الموقع.
بعد
إنهاء هذه المهام سنقتحكم جميعنا الموقع لتنظيفه.. علم؟
قلنا:
علم يا افندم.
قال:
استعدوا.. التحرك بعد خمس دقائق.
السماء
السوداء، المزخرفة بالنجوم التي تبرق، تمتد، وتتمطى، وتثقل على صدري، وتدوس على
انفاسي، ومحرك العربة "الزيل" يهدر خافتا...
ويروح
الظلام، المحيط بي، من عيني، ويختفي الكون تدريجيا، ينمحي، وعالم، غير هذا العالم،
يبدو مضاءًا بنور رباني، عالم ليس فيه جبال، ولا زروع، ولا بيوت، ولا ناس، وإنما
بيت واحد أمامه مصطبة أجلس عليها، وابنتي الصغيرة "آية" تخطو نحوي وبين
اناملها طوبة صغيرة لها سن مغروس في ظهر عقرب صغير، تتقدم ناحيتي وهي تضحك، وتزعق،
وتمد يدها لي: أبي.. دودة.
أمد
يدي إليها، وأفتح فمي لأكلمها، لكن صوت "زكريا" البقال يأتيني عاليا،
وهو يتأفف، وأراه قادما نحوي مقطبا جبينه، قال: ارتفع ثمن كيلو السكر مرة اخرى!
ثم
أرى "وهيب"، في جلبابه الأزرق، الباهت، يهرول إلي وهو يهتف: يا
"قبيصي".. البقرة تلد.. والعجل مخلوف في بطنها.
وتظهر
أمي على وجهها ابتسامة، تسير بهدوء نحو "آية"، تأخذ منها الطوبة
المغروسة في العقرب، وتنظر إلي: غدا تنزل البندر وتشتري الذهب.. الفرح يوم الخميس.
ثم
يخترق هذا العالم أوتوبيس بعد الظهيرة، يمشي وهو يكركر، عجوز يتساند على أشجار
الطريق، يصدر ضوضاء خبط حديده، وعم "رمزي"، الكمساري، يرفع صوته: كوبري
"أبو الدهب".. من سينزل؟
وتتسلل
طريق "السد" الضيقة إلى هذا العالم، وتتبعها الحقول، والنخيل يلوح
واقفا، يحرس شرق البلد ليل نهار، وصوت عادم ماكينة الري ينطلق من الماسورة: بوف..
بوف.. بوف.
والمياه
تجري في الجداول فرحة، تغرد.
طار
كل هذا العالم فجأة، عندما اهتز رأسي بشدة، وصوت القائد يصرخ: حاسب.
ولول
محرك العربة، لتميل دفعة واحدة ناحية اليسار، ثم انفجار رهيب يدوي في رأسي، وصدري،
وبطني، لأشعر بجسدي يخترق الهواء، مقذوفا بشدة ليرتطم برمل الأرض، وبآخر بقايا
قوتي أدرت رأسي نحو العربة، كانت قد تفتتت، ونار وحشية تأكل أجزاءها، وجسد
"جبريل"، الضخم، يجري مشتعلا، بينما يصرخ صرخات هيستيرية.
طنين
يتصاعد داخلي، يعلو، وفضاء ينبسط، ويضوي بنور فوسفوري، وعشرات الملائكة تدخله،
تقبض على سيوف من ذهب براق، ينشق هذا الفضاء لأرى بيتا يشبه بيتي، أمامه مصطبة، يجلس
عليها رجل يشبهني تماما، يتقدم نحوه ملاكان، ليلصقا بظهره جناحين، ثم يدعوانه
للطيران معهما، وعندما وقف ليطير، رأيت ابنتي "آية" تخطو نحوه، وسمعتها
تسأله: أبي.. إلى أين ستذهب؟
قال:
إلى السماء.
قالت:
أريد حلوى من السماء.
قال:
ليس في السماء حلوى.
ـ
ماذا في السماء؟
ـ
ربنا.
ـ
وأنت تذهب لربنا؟
ـ
نعم يا "آية"، وربنا سيجعلني عصفورا في الجنة، لكني سأطلب منه أن أنزل
كل صباح لأقف على "الطرمبة" وأراك.
تعجبت:
عصفورا!
وتضحك
بينما أصابعها تتحسس، برفق، ريش جناحي.
ناس
"قبيصي".
"قبيصي"
قادم من عند كوبري "أبو الدهب"، يمشي في طريق "السد"، ليدخل
القرية من شرقها، المستتر بالنخيل.
الشمس
غاربة، غاطسة وراء الأفق البعيد، والظلام قام من رقاده، تثاءب، وتمطى، ونظر إلى
الأرض بخبث.
الآن
آلاف الجنود يعودون إلى قراهم، وبيوتهم؛ سيدخلون كمنتصرين، وستحاط رقابهم بالورود،
وستمتلئ آذانهم بتكبيرات الرجال، وزغاريد النسوان، ثم يجلسون على المصاطب، تحت
القمر، ويقولون حكايات الحرب، وسيخرجون من جيوبهم رمل الأرض التي نادت، سيقولون إن
هذه الرمال رمال مسحورة، إذا طلع عليها القمر تصير فضة.
أما
ناس "قبيصي" فلن يسألوه كيف قتل العدو، الذي كله شر، وإنما سيسألونه:
كيف مات "جبريل"؟
عجائب
جبريل.
هناك،
في قوم الريح نسمة وقورة، نطقها حق، وكلامها ليس بالهرج، لذلك عندما تماوجت أمام
سيد الريح، وقالت له: "جبريل لم يمت". طفت على وجهه الغرابة، وتعجب،
وقال: "لكن نسمة أخرى قالت إنه مات!". فقالت النسمة الوقورة: "يا
سيد، هذه النسمة مشهورة بيننا بأنها مخادعة، ماجنة، لقد شربت الخمر فسكرت، وزين
لها السكر أن تلهو، فلهت، لكن أنا يا سيدي قادمة الآن من عند المدينة التي يأكل
الناس بعضهم بعضا بين طرقاتها، ورأيت هناك جبريل يفعل العجائب".
هامش.
كان
قد جاء لسيد الريح الأمر من الرب بأن يدفع السحب إلى بلاد ما خلف جبال الشرق، حيث
جدبت الأرض هناك، فكلف سيد الريح النسائم القوية برعي السحب، ودفعها إلى حيث أمر
الرب، وكانت بين النسائم هذه النسمة الوقورة، وفي سماوات بلاد وبلاد طار الغيم حتى
وصل إلى هذه السماء التي تبص حزينة إلى الحروبات المشتعلة تحتها، دققت النسمة
الوقورة النظر في هذه الأرض، فرأت "جبريل"، و"جبريل" كان يقبض
بيده على طائرة، مرسوم على ذيلها نجمة، يفرد ذراعه على مداه، إلى فوق، ثم يهوي به
تاركا الطائرة، لتصطدم بكل عنف بالأرض، وتتفتت، وتشتعل.
تركت
النسمة الوقورة الغيم، ونزلت، وانسابت بين بيوت المدينة تتفرج على الغرائب، فرأت
جيشا عمل في الجيش الآخر ثغرة، ودباباته تدب في شوارع المدينة، لكن
"جبريل"، وهذه إحدى عجائبه، شاط بقدمه هذه الدبابات، فسقطت في مياه
البحر، وغرقت وهي تبقبق، وبقدمه الأخرى دهس كل الجنود، فتناثروا في الشوارع، ولم
يبق منهم إلا خوذ مطفأة البريق، وبنادق في نهايات مواسيرها خناجر تلمع.
النسمة
الوقورة هالها فعل هذا البشري فداخت، واستندت بظهرها إلى أحد أبراج الكنائس، معلق
فيه جرس متقدس، والجرس المتقدس قال للنسمة: اسمعي.
ودق
دقة فتبعته كل أجراس الكنائس، وعللا موسيقى الأجراس رقصت الأبراج، والمآذن وهي
تغني إحدى عجائب "جبريل"، ذلك عندما بسط كفيه في ماء البحر، تحت الزوارق
المملوءة جنودا، يسندها حتى لا تميل فتغرق بسبب قصف المدافع الغشيمة، ومد يده
المباركة، وغرسها في تراب الساتر، لينتزع منه قبضة فتحت فجوة مرت منها دبابات رشيقة
رشاقة الغزلان، وسيارت تتنطط كطيور الهدهد.
تدق
موسيقى الأجراس، بينما النور ينسحب.
والنسمة
الوقورة نظرت إلى الشمس فرأتها راكبة فرسها الذي يركض تجاه المغارب.
انتفخ
صدر سيد الريح، واتسعت حدقتا عينيه: إذًا "جبريل" حي!
النسمة
الوقورة هزت رأسها لفوق وتحت.
خبر
سعيد.
ظلت
السماء، المطلة على القرية، حزينة لستة أيام، بسبب خدعة النسمة الماجنة، والنخيل،
والبيوت، والحجر الضخم شرق البلد، حتى جاءت النسمة الوقورة، وقالك
"جبريل" حي.
رقصت
السماء، ورقصت الأرض، ونادى أحد الجدران الكلب البائس، وقال مبسوطا:
"جبريل" حي.
نفش
الكلب شعره، وقفز في الهواء، ونبح، ودار رأسه في كل الجهات، ينظر إلى كل الجدران
نظرات تعجب، وكلها قالت له: نعم. "جبريل" حي.
طار
الكلب إلى شرق البلد، ونظر إلى الحجر، الذي أومأ له مبتسما، فغنى، وجرى إلى
النخيل، حيث مبدأ مبتدأ طريق "السد"، وهناك رأى "قبيصي"
عائدا، وكان شكل "قبيصي" لا يسر.
عجيبة
ابن العدو.
كان
الليل.
وفي
الليل تكون لـ"جبريل" عينا صقر، تشقان الظلام لتريا ما يريد أن
يرى،فيدوس ببيادته على العدو، حتى تفرقع أجنابه، ويموت، بينما المدافع تضج في كل
مكان، وانفجارات القنابل تدوي، ودخان سميك يتصاعد إلى السماء متثاقلا.
رصاصة
ماكرة شرخت الهواء منطلقة إلى رأس "جبريل" المحشور في خوذة حديد، صرخت
الخوذة عندما ضربتها الرصاصة، والتفت "جبريل"، بسرعة، الى المكان الذي
انطلقت منه رصاصة الشر..
"ابن
العدو في الجامع الكبير!".
بحذر،
دخل "جبريل" الجامع، فرأى، تحت المنبر، شبحا أسود بيده بندقية يضغط على
زنادها فلا تنطلق منها رصاصات الشر!
رصاصات
الشر نفدت من بندقية ابن العدو، فتقدم "جبريل" نحوه حتى صار فوقه،
وعندما رفع قدمه ليدوس عليه.....
يقطب
منبر الجامع جبينه، يحكي عما حدث، فيقول: إنه، في هذه اللحظة، توقف ضجيج المدافع،
وسكتت القنابل، وانمحى صراخ الجنود المتقاتلين، فقط كان السكون، سكون أسود ثقيل،
لكن قدم "جبريل" العالية أخذت طريقها إلى أسفل، حيث ابن العدو ممدد على
الأرض وقد رفع يديه متوسلا: "لا تقتلني". قدم "جبريل" تقترب،
وتقترب، بينما الصوت المتوسل ينداح: "المدافع سكتت، الحرب توقفت". قدم
"جبريل" لامست جسد ابن العدو فبكى: "أيها النبيل، أتقتلني من غير
حرب!". عقل "جبريل" قال: "يا جبريل، هو ابن العدو غير شريف،
ومحتال، انظر إليه كيف يتسول الحياة! هذه ليست أخلاق المحاربين النبلاء، اضغط
بقدمك يا جبريل".
عظام
ابن العدو طقطقت، و"جبريل" يدوس، وروح ابن العدو قاربت على الطلوع،
فهمس: أموت الآن ودخان البارود يملأ انفي، لكم أتمنى لو أني أشم الريحانة التي
زرعتها "شيري" الصغيرة.
قدم
"جبريل" سمعت كلام ابن العدو فتوقفت، "جبريل" ضغط على قدمه،
لكن قدمه لا تستجيب، إنها تتمرد، وعرف عقل ابن العدو أن ثمة تمرد هناك فابتسم وجه
ابن العدو ابتسامة رآها منبر الجامع فارتعش، مواصلا الهمس: ما أروع العالم دون
مدافع أو دبابات، أود لو أرى، لآخر مرة، عيني زوجتي "سارة".
قلب
طيب بين ضلوع "جبريل"، لما سمع هذه العبارة دق دقا شديدا، وتذكر
"سعاد"، وانتفضت قدم "جبريل" تاركة جسد ابن العدو، الذي قام
من رقدته، ونفض بذلته المتربة، ونظر إلى "جبريل"، وقال: سأحكي
لـ"سارة" عنك، سأقول لها إن البطل صار صديقي!
وقف
"جبريل" كالصنم، بينما ابن العدو، الفرح بالحياة، ألقى بنفسه عليه،
وقبله، وخطف يد "جبريل.
كان
يصافحه وهو يبتسم ابتسامة ماكرة، فقد عمل العجيبة، ثم هرول إلى باب الجامع كي
يخرج، وعند الباب لوح لـ"جبريل"، واختفى.
تدق
الأجراس المقدسة، وتغني الأبراج، والمآذن، باكية ما حدث لـ"جبريل": هو
ابن العدو، اللص، سرق وجه "جبريل" الجميل، عندما احتضنه، وترك له في
رأسه وجهه القبيح، الآن "جبريل" ليس "جبريل"، لكنه شخص آخر
يشبه، تماما، ابن العدو اللص".
تدق
الأجراس، وتنوح المآذن، بينما الدبابات تنسحب إلى الخلف، والجنود يستلقون في
الشوارع، بجوار بنادقهم، ينظرون بكسل حائر إلى عتمة السماء.
ابن
"آدم" يعرف متأخرا.
ـ
ماااات!
صرخت
"حكومة"، وقلبها يقرع كالطبل البلدي.
وفي
لحظة خاطفة غارت حياتها إلى حيث لا قرار، ماتت واقفة، كشجرة "جميز"
عجوز.
كل
ساعة كانت تنتظر خبر "جبريل"، فهي تدرك أنه في أراضي الحروب يكون
الإنسان نبتة الموت، التي ستطيب ليحصدها بمنجله، لكن قلبها لم يؤيد أبدا هذه
الفكرة، ودائما ما كان يخبرها بأن ولدها حي، وكانت تصدق قلبها، لذلك أمسكت السكين
وذبحت كل شكوكها، وانتظرت قدومه يقينا.
لكن
"قبيصي" يقول لها إنه مات، ويقول: ربنا يصبرك على ما بلاك.
"حكومة"
ذهلت، الخبر يتصادى داخلها، وهي ترى "سعاد" تتلوى على فراشها،
و"رسلة" الداية تمسح ما بين فخذيها بالماء الدافيء وهي تقول: "شدي
حيلك". وتشد "سعاد" حيلها، وتصرخ بعزم، فينزلق منها ولد.
وترى
"حكومة" الولد ينادي على "جبريل"، لكن "جبريل"
مدفون في مكان بعيد، ومع ذلك يسمع النداء، فيمد يديه كي يقوم، وتراه
"حكومة" غير قادر على القيام، يحاول، ويحاول، لكن أكوام الرمل تكاثرت
على جسده فأهمدته.
ـ
بوووووو.
هكذا
صرخة "حكومة"، وطاحت بلسانها في "قبيصي"، وشتمته، وعندما تجمع
الناس حولها كفرت، وسبت لهم الدين، وقالت: "جبريل" حي.. ولدي.
وعقلها
فر من رأسها، مالت إلى الأرض وشالت من ترابها وحطت على رأسها، وشقت جلابيتها
السوداء، وجرت في الشارع تعوي مثل كلب مسعور، متجهة إلى بيتها، ونبشت أحد جدرانه،
وأخرجت البندقية التي دسها فيه أبو "جبريل"، قبل رحيله إلى الميتين،
أمسكتها، وقالت: المطاريد هم الذين خطفوا "جبريل".
ثم
إنها صارت، في النهار والليل، تسيح في الحقول، وتطلع الجبل العالي، الرابض غرب
البلد، تفتش مغاراته، وبندقيتها بين يديها مشرعة.
نهايات
التطواف.
من
غرب البلد، حيث سفح الجبل وقبور الميتين، هل
"جبريل"، منتصر يسير بقدمي منهزم، الوقت نصف الليل، السماء نعسانة،
والقمر بعد انتهاء السهرة يلملم أثوابه كي يرحل، لا أصوات إلا صوت الصراصير في
البيوت، وصرير الجراد اللابد في الزروع.
شرق
البلد، حيث النخيل الحارس ومبتدأ طريق "السد"، كان الكلب يضع رأسه بين
ذراعيه المبسوطين، وتقلقل غراب يقف بين جريد إحدى النخلات، وكاد يقع، فضرب الهواء
بجناحيه، ونعق، رفع الكلب رأسه، وشم الهواء بأنفه، كانت رائحة "جبريل"
ترتع، فنصب الكلب أذنيه، وهب واقفا، شم الهواء مرة أخرى، فتأكد من أنها الرائحة
التي يعرفها، وتأكد من أنها قادمة من غرب البلد.
تتسكع
نسمتان في جو القرية، إحداهما وقورة، والأخرى
ماجنة، عندما رأت الوقورة "جبريل" يدخل البلد لكزت الماجنة في جنبها،
وقالت: "انظري، ها هو جبريل حي، على قدميه يمشي". نظرت النسمة المخادعة
إلى النسمة الوقورة بطرف عينها، وقالت: "انظري أنت جيدا".
طرحة
"حكومة" مغبرة، متهدلة على كتفيها، شعرها الأبيض ناشف، منكوش، عيناها
الحمراوين تنظران إلى كل النواحي بكلل، يداها اليابستين
تقبضان على البندقية، والبندقية ماسورتها موجهة
إلى السماء. فرفط قلب "حكومة"، وزعق: "جبريل!". هتفت:
"أين؟". قال: "في البيت".
ربت
"قبيصي" على ظهر ابنته الصغيرة "آية"، وهمس:
"نامي". قالت: "لا يأتيني نوم". وبينما يحكم الغطاء حولها سمع
نباح كلب "جبريل" وهو يمر أمام البيت. كان "جبريل" يمشي بجوار
كلبه الفرحان. قالت "آية": "أبي. هذا كلب عمي جبريل!". غمغم
"قبيصي"، وهو ما زال يحكم الغطاء حول جسدها، ولهب اللمبة العويل يتراقص
ملتمعا في عينيها الواسعتين، سألته: "لماذا لم يعد معك عمي جبريل؟!".
قال: "لأنه راح إلى السماء". تلوت "آية" وهي تدفع الغطاء عن
جسدها وقالت: "لماذا راح إلى السماء؟!". قال: "ليقابل ربنا".
وقف
"جبريل" أمام بوابة البيت، كور قبضته وضرب بها الخشب العتيق ضربة خفيفة،
نبح كلبه وهو يقلب بصره بين "جبريل" والبوابة متعجبا من هذا الوجه
القبيح الذي يضعه في رأسه. من الداخل جاء صوت "سعاد" مشروخا:
"من؟". ضربت الرعشة جسد "جبريل"، وأنَّ الكلب وهو يشم خشب
البوابة متعجلا فتحها. بصوت طفل ضال قال: "جبريل". سمعت
"سعاد" الصوت فعرفته، صوت "جبريل"، لكن الليل العجيب تجري
الأحداث فيه كالأحلام، لم تصدق، فلم تفتح البوابة، ومع ذلك كان الأمل قد بدأ دبيبه
في قلبها، وبصوت ميت تعود إليه الروح قالت: "من!". نكت الكلب أظافره في
خشب البوابة، ونبح، وقال "جبريل" بلهفة: "جبريل يا سعاد".
اهتزت الأرض تحتها،والدم الهامد أخيرا ركض، في عروقها، ركض خيول السبق، قفزت نجو
الرتاج، وسحبته، فانفتحت البوابة، ليدخل الكلب مندفعا، بينما دخل "جبريل"
بمهل المندهشين.
تهرول
"حكومة" في أول الشارع، قلبها يزعق
بمرح: "جبريل في البيت"، تهرول وبين يديها يندقية ماسورتها موجهة إلى
جدران البيوت.
"آية"
تقول لأبيها: "ومتى يرجع عمي جبريل من السماء؟". يقول
"قبيصي": "لن يرجع". قطبت "آية" جبينها، وقالت:
"لماذا؟".
وهي
غير مصدقة قالت "سعاد": "جبريل؟!". وارتمت في أحضانه،
وبذراعه، التي اصطاد بها الطائرات ودمرها، وسل بها الأرواح من أجساد أولاد العدو،
ضمها إلى صدره، وصهرها، بينما الكلب مقعيا، يتدلى لسانه خارج فكيه من فرط اللهاث.
ضجيج
قدمي "حكومة"، التي تجري في الشارع، أيقظت الجدران من نومها، والنسمة
المخادعة، بعد أن شربت خمس كؤوس خمر، سكرت، وطلبت اللهو، فانسابت إلى عيني
"حكومة" وشكتهما، فجعلتهما تدمعان.
أزاح
"قبيصي" الغطاء عن جسده، وجلس أمام "آية"، وقال: "لأني
دفنته". فتحت عينيها مندهشة، وقالت: "دفنته في الأرض؟!". قال:
"نعم". قالت: "لكن أنت قلت لي إنه راح إلى السماء!". قال:
"روحه هي التي راحت إلى السماء، لكني دفنت جسده في الأرض، ودفنت معه نواة
بلح".
رفعت
"سعاد" وجهها إلى وجه "جبريل"، ابتسم وجه ابن العدو القبيح،
فانخلع قلب "سعاد" من صدرها، وصرخت: "يا مُري!".
"جبريل" المخدوع بُهت، وتوقف الكلب عن اللهاث، واعتدل في جلسته، وزام،
لكن "حكومة" كانت قد وقفت في صدر البوابة وهي تلهث، وقلبها يقول:
"ها هو جبريل". كان لسان وجه ابن العدو قد ركد بين لحييه، وزعقت
"حكومة": "قلب كذاب". وقالت: "رجل غريب، قبيح، جاء يعتدي
على شرف جبريل". ووجهت ماسورة البندقية نحو "جبريل". زعقت:
"يا ابن الكلب، جبريل لم يمت، هو حي، وسيعود يوما". وضغطت على الزناد،
الزناد تك تكة فانطلقت الرصاصة إلى قلب "جبريل"، وفرقعت فيه.
صوت
الطلق الناري كان عاليا، أفزع "آية"، فقفزت إلى حجر "قبيصي"
وهي تكمل كلامها: "نخلة؟!". ربت عل ظهرها، وقال: "نخلة جبريل نخلة
هائلة، ستأوي إليها كل الطيور، عصافير، ويمام، وهداهد، وفصاد، وستطرح كل الفواكه،
بلح، وعنب، ورمان، وبرتقال، وتحت شواشيها الخضراء ستبني الناس العمائر، والبيوت،
و....".
"قبيصي"
يقول كلامه، بينما خلف بوابة بيت "جبريل" يغرس الكلب أنيابه، ومخالبه،
في خشب البندقية التي تتقلب على الأرض ودخان رمادي يسيل من ماسورتها.

إرسال تعليق