U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

أنا الأديب


 
كانت ليلة عصيبة.

نعم كانت ليلة عصيبة، فلقد سيطر علي هاجس فظيع، نعم ، هاجس فظيع.

فما أن فرطت جسدي على السرير، بعد منتصف هذه الليلة، حتى اجتاحني هذا الهاجس الفظيع، المريع، المرعب، المرهب، المفزع، المروع، المدهش، المذهل، المذل، سأموت الليلة، سأموت الليلة، سأموت الليلة!

ـ يا سيدي.. كل الناس يموتون.. الموت أسهل مما تتصور.

يا غبي، الناس لا يموتون لأن الموت سهل، إنهم يموتون رغم أنوفهم، أنا مثلا لا أريد أن أموت أبدا، فالحياة جميلة فعلا، نعم والله، الحياة جميلة جدا، إنها ممتلئة بطوابير الخبز، وطوابير اسطوانات الغاز، ومشحونة بالازدحامات في وسائل المواصلات، وفي مباني المصالح الحكومية، وفيها الصيف القائظ ، وفيها زمهرير الشتاء، وفيها حالي الشخصي المشندل، دخل قليل، ومنصرف كثير، وديون بالطن، وزوجة واحدة، وثلاثة عيال، وشقة ضيقة، وهم واسع.

ـ والله أمرك غريب!  كل ما ذكرته من مواصفات للحياة يجعل الموت جنة وبغددة!

إذا عرفت فعلا ما هو الموت، ستدرك أن هذه المواصفات نعيم.

ـ أنا أعرف الموت.. الناس كلها تعرف الموت.. حتى الأهبل والعبيط

ما أهبل إلا أنت، وما عبيط إلا أبوك لأنه أنجب مثلك، وما تعرف من الموت غير أنه خروج الروح ودفن الجِتَّة، ويا ليته كان كما تظن.

ـ وهل الموت غير ذلك؟!

نعم، الموت حكاية طويلة، حكاية طويلة بائسة، حكاية طويلة بائسة جدا، وحتى تفهم بعضها، قليلها، لا بد ابتداء من فعل شيء.

ـ ما هو؟

أن تموت أولا يا روح أمك!

ـ تريدني انتحر؟!

أريدك تتخيل نفسك وأنت تموت، هل تستطيع تخيل نفسك وأنت تموت؟ ممكن، والله ممكن، فقط خذ المسألة بجد.

ـ كيف يا ابن المجنونة؟!

هكذا، تمدد على فراشك مريضا بالسرطان، أو بسكري تهاونت معه فافترسك، أو بأي مرض قاتل، المهم تمدد الآن في فراشك مريضا بأي داء سيوجه لك بعد قليل الضربة القاضية.

ـ أنا أفضل الموت في حادث.

لأنك أهبل، لكن دعنا نختار الموت بالطريقة التي يموت بها الغالب الأعم من الناس، مرض خطير، و نومة في فراش، والانتظار.

ـ طيب.. لما أرى لون ليلتك!

سوداء، وهل لليل لون غير السواد؟!  تمدد، تمدد، وحاول أن تموت.

 

أن تكون أديبا، أن تكون إنسانا يموت، وكيف لا يموت من يُقتطع من روحه في كل لحظة قطعة؟!  كل الناس يموتون موتة واحدة، و الأديب له موتة مع كل دقة قلب، فكل الناس يحيون حياة واحدة، وهو يحيا حياة الناس كلهم، يالعذاب خروج الكتابة، أقف في مائة طابور للخبز أريح لي من كتابة سطر، وأن أتمدد الآن في فراشي وأموت أبسط من أن أملأ ورقة بحبر قلمي، سأتمدد إذن وأموت.

ها أنا ممدد في فراشي، ملقى على ظهري، أبحلق بعيني في فراغ سينشق حتما عن ملك الموت وقد جاء يأخذ روحي، وبينما أنا أبحلق في الفراغ، كان هناك من يسدد إلي نظرات رثاء، أمي هذه؟ أبي؟ أم زوجتي؟ ربما ابنائي، ربما آخرون، ربما كل هولاء، مالهم؟ مالهم ؟ عيونهم تقول لي إنك تموت.

ـ أنا يا أخي لا أشعر بكل هذا!

لأنك تِلم، بِلط، حاول تشعر أنك تموت فعلا، وأن الناس حولك ينظرون إليك نظرات تُصر على أن توضح لك أنهم يودعونك الوداع الأخير، وأنك أنت الذي يموت، وليس هم، وأن معنى هذا أنك لن تستطيع، بعد هذه اللحظة، أن تعتدل لتدلي ساقيك وتضع قدميك في حذائك المثقوب كذا ثقب، والمرتق كذا رتق، والذي كنت تكره العيشة بسببه، تخيل نفسك، بعد موتك، وأنت تدير رأسك بصعوبة كي تنظر إلى حذائك، وتتمني لو تستطيع وضع قدميك فيه، تخيل كم سيكون حذاؤك جميلا وقتها....

ـ والفانلة الداخلية المقطعة.. واللباس.

نعم، نعم، اسخن معي، ها قد بدأت تشعر بأنك تموت، ما لـ"الفانلة" المقطعة واللباس؟

ـ أحسن من كفن جديد يا ابن الملطوطة.

تقف في كم طابور اسطوانات غاز ولا يرى أحد لباسك المقطع؟

ـ أقف في مائة طابور.

عورتك رخيصة لهذه الدرجة؟! أنا أقف طول عمري في طوابير ولا يرى أحد عورتي...

ـ طيب.. من أين تأتي بعمر آخر تقفه طوابيرا كي لا يرى أحد خراءك الذي خرأته وأنت تموت؟

يا ابن الكااااالب! تتكلم الآن كلاما عبقريا، نعم، سيكون الموت قاسيا لدرجة تجعلك تخرأ على روحك، و إن لم تخرأ، سيضغطون على بطنك بعد الموت لتخرأ وأنت ميت، يصرون على إذلالك، والأدهى، والأنكى، أن أصابعهم سوف تعبث في مؤخرتك لتنظيفها من خرائك، أقف مليون طابور عيش، بالإضافة إلى مليون طابور غاز، في عز نار الصيف، أو في عز زمهرير الشتاء، في مقابل أن أكون قادرا على تنظيف نفسي من خرائي.

ـ يخيل لي أن هذا الأمر ليس مهما كثيرا للأموات!

لكنه مهم للأحياء، و ليس أحيا من الأديب، وإذا أنا تمددت في فراشي، لأرقد الرقدة الأخيرة، لن يكون الموت نفسه هو ما يهمني، وإنما: ماذا أفعل كي لا تستباح مؤخرتي؟ وكي لا يتأفف الآخرون من خرائي؟

ـ بسيطة.. لا تخرأ.

يا غبي، لو أنني سأملك أمر نفسي لن أخرأ قطعا، لكن الموت سيجبرني على هذا، ها أنت ترى كيف أن الموت فعلا مشكلة، تتعطر طوال حياتك بـ"البارفانات" ثم لا بد، وحتما، من أن يُشم منك، في آخر لحظات علاقتك بالدنيا، رائحة خراء! 

ما هذا؟!

تملأ الدنيا ضجيجا، وحركة، لأسباب تافهة، ثم تجد نفسك، في النهاية، لا تستطيع أن تدافع عن مؤخرتك، ولا أن تداري خراءك.

ـ كلام معروف ومعاد ومكرر وممل.. بل اسمح لي بأن أقول إنه كلام مقرف أيضا.. أنت ستموت كما مات المليارات قبلـك.. وسـتموت كما سيـموت المليارات بعدك.. والحياة أقصر من أن نقـتطع منها ما نقضيه الآن في عمل بروفات للموت.

تعني أن الحياة، مهما عظمت مصائبها، هي أفضل كثيرا من الموت؟

ـ طبعا.. ما من مصيبة إلا والموت أعظم منها .

إلا مصيبة أن تكون أديبا

ـ اشمعنى؟!

قلنا اشمعنى، ولن أعيد.

ـ ما انتبهت.

طيب، اسمع وحاول تفهم.. أصحابي في دنيا الأدب قالوا لي: أكتب شهادة لتشارك بها في أحد المؤتمرات، قلت لهم وما الشهادة؟! أنا لا أعرف من الشهادات غير "اشهد أن لا إله إلا الله".

قالوا: هناك شهادات أدبية يكتب فيها الأديب عن نفسه، عن علاقاته بالزمان، والمكان، والأشخاص، يعني يسجل رؤيته للعالم من حوله، وكيفية تفاعله معه.

 

طيب، أنا أديب رؤيته أن كل شيء يبتعد، والموت يدنو، الزمن ينسحق بالموت، والمكان يتفتت بالموت، والأشخاص زائلة بالموت، لذلك الحق أقول لكم: الحقوا ابتسموا، والحقوا اضحكوا، والحقوا غنوا، والحقوا ارقصوا، الحقوا قبلوا العذارى، والحقوا احضنوهن، والحقوا اتركوا الكتابة، والحقوا احيوا كما يحيا العوام، ازرعوا ورودا، الحقوا ازرعوا ورودا، الحقوا ازرعوا ورودا كثيرة، نحتاج ورودا بلا حصر ولا عدد، نحتاجها لنضعها بجوار من ينتظر الموت، لعله يفهم فيقوم فيحشو بها مؤخرته، رائحة الورود أفضل، قطعا، من رائحة الخراء..

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة