هو البطن
عمَّا في داخله لا يبوح، لكنِّى لـ"لبنى" قلت: "لو أنه ولد
سأسمِّيه محمدا، ولو أنها بنت سأسمِّيها هاجر". "لبنى" قالت لي:
"أنت تريد ولدا أم بنتا؟". قلت: "هدايا الله كلّها رائعة".
تحسَّست "لبنى" بطنها وقالت: "أشعر أنها بنت!". قلت: "هاجر".
وضحكت.
أنا على
السَّرير مستلق بين يديَّ كتاب مفتوح، " لبنى" جانبي تحيك فستانا صغيرا
جدا، وعلى المنضدة الراديو فيه ناس تتحدث، "لبني" توقفت عن الحياكة وتأوَّهت،
وبيدها قبضت على جنبها، أنا تركت الكتاب ونظرت إليها، ابتسمت وهي تقول: "والله
بنت". قلت: "ولماذا أنت متأكِّدة أنها بنت؟!". قالت: "البنت
وديعة تكون حتى وهي في بطن أمِّها، بخفَّة تتحرَّك، أما الولد فإنَّه شرس، يضرب
بشدة ".
الراديو
فيه ناس تتحدث، وأنا أبحث عن الصفحة التي كنت أقرؤها قلت: "يا لبنى، عندما
تأتى هاجر سأضع بين يديها هذا الأسد الواقف فوق المنضدة لتلعب به". "لبنى"
انزعجت: "ستهشِّمه!". أنا ضحكت وقلت: "هوهوهووووى، ما أروع أن تكون
لي طفلة قادرة على أن تهشِّم أسدا".
"لبنى" حاكت ثلاثة فساتين صغيرة جدًا، وجميلة
جدًا، وأنا اشتريت "توكة" شعر صغيرة جدًا وجميلة جدًا،
و"لبنى" في إحدى الليالي قالت: "أريد سريرًا صغيرًا جدَّا
لهاجر". قلت: "أنا لا أملك نقودًا لشراء سرير صغير جدَّا". قالت:
"أين تنام هاجر؟!". قلت: "هنا". وأشرت إلى المسافة الصغيرة
جدًا التي بين جسدينا. " لبنى" انزعجت: "قد تستغرق في النوم، فتنقلب
عليها وتكتم أنفاسها!". قلت: "اطمئني، عندما تأتى هاجر لن ننام أبدًا
بعمق، الأطفال الصِّغار جدًا لا يكفُّون عن البكاء".
اللمبة
"النيون" المعلَّقة على الجدار تهدَّلت، التَّجاعيد غطَّت وجهها العجوز،
ونورها صار لا يكفى، برد الشتاء يتسلَّل من شيش الشبَّاك إلى الغرفة ويعربد فيها، أنا
و"لبني" تحت الأغطية ملتصقان، أصابعها مغروسة في شعري تقلِّبه، همست:
"ربما لا تأتى هاجر، ربما أتى محمد". قلت: "نضحك عليه ونجعله يرتدى
فساتين هاجر". ضحكت وقالت: "والتُّوكة!؟". قلت: "ضعيها في
شعرك". قالت: "وستعطيه الأسد ليلعب به ويهشِّمه؟!". قلت:
"محمد أعطيه نفسي ليلعب بها ويهشِّمها". زمَّت "لبنى" شفتيها
وقالت: "ومن تكون أنت؟!". يدي اليمنى دارت في الهواء تتحسَّس كُرَةً
أرضيَّة وهميَّة وقلت : "أنا ملك العالم ". قالت: "ما أروع أن يكون
لي طفل قادر على أن يهشِّم ملك العالم".
بطنها صار ضخمًا
جدَّا، وصارت تمشى تميل، غرب النَّهر الجبل ضخم جدَّا، والنَّهر مياهه تجرى، وأنا
أبحلق في مياهه، مياه النَّهر زرقاء صافية، لبنى دسَّت يدها في يدي، كعب حذائها
العالي يُطَقْطِق لما يخبط بلاط رصيف الكورنيش، الشَّمس ترمى النُّور الأصفر،
النُّور الأصفر يقع على الناس والأشجار والعمائر، آخر نور يبقى في جعبة الشمس يكون
أصفر.
قالت:
"كعب الحذاء العالي يؤلم ظهري".
"لبنى"
محتاجة لحذاء بدون كعب عالي لترتاح وهي تمشى، وأنا فقير جدًا، و"لبنى"
تعرف أنني فقير جدًا، " لبني" لا تريد أن تخدش أحاسيسي فتطلب شراء حذاء
تعرف أنني غير قادر على دفع ثمنه، "لبنى" في نفسها تتمنَّى لو أنها لم
تقل إن كعب حذائها العالي يؤلم ظهرها، لأنها تعرف أن هذا الكعب العالي سيؤلم قلبي
أيضا.
قلت:
"نجلس".
"لبنى"
ابتسمت لما خلعت قدميها من الحذاء وقالت: "لماذا تريد أن تسمِّى البنت
هاجر؟".
أمواج النَّهر الشفَّافة صغيرة جدَّا،
وتَتَنَطَّط مثل السمك النطاط، أمواج النَّهر تجرى نحو الشمال، هو النَّهر يعيش
منذ آلاف الأعوام، منذ ملايين السنين، في سنة رأته "سارة" وفيه غسلت
ثيابها، وبلَّلت قدميها، وبعدها ألقت عليه نظرة ثم سافرت إلى بلادها البعيدة،
و"هاجر" رأته أيضا، لكنها ألقت نفسها فيه وصارت تتقلَّب، ومياهه غسلتها
فجعلتها تبرق، وهي من مياهه شربت، وهي لم تنظر إليه نظرة الوداع، وإنما جمعت طوب
الأرض وعلى ضفَّته بنت بيتًا. أسماء البنات مليون، لكنِّى من الأسماء المليون أعشق
اسمين، "سارة" و"هاجر"، لكن "سارة" لما سافرت إلى
بلادها البعيدة أنجبت صهاينة، أما " هاجر" فإنَّها ولدت عربًا، وأنا
عربي وملك العالم.
قلت: "أحب
هاجر". لكزتني "لبنى" بكوعها في جنبي وقالت: "ولبنى!؟".
قلت: "أموت في لبني".
الميدان براح، أعمدة الإضاءة الطويلة نهاياتها
مشتعلة، الناس كموج النَّهر تتلاطم، السيَّارات تحبو بعيون مضاءة، السيَّارات تحبو
وكلاكساتها منطلقة، صورة "لبنى" الوديعة تطرق باب عقلي برفق، فينفتح
الباب وتدخل وتقول "حقِّق لي أحلامي". عام غار و"لبنى" في
بيتي، والآن بطنها منتفخ، وعشرة فساتين صغيرة جدَّا صارت جاهزة للارتداء، فقط ليس
على "هاجر" سوى المجئ، هي تأتى ولها عندي أن أقبِّلها في الصباح قُبلة،
وفي الظَّهيرة قٌبلة، وفي العصر قُبلة، وقُبلة قبل أن أنام. قرَّرت عندما أدخل
البيت أن أسأل " لبنى": "ما هي أحلامك لأحقِّقها لك؟".
فرحة
بالألم القاسي، وبالتأوُّهات المكتومة فرحة، أنا في الصَّالة الضيِّقة أسمعها،
أعصابي تشيط، أقول من بين أسناني: "هااااه يا هاجر تعالى بسرعة".
"لبنى" تتعذب، لكن صورة "محمد" أمام عينيها تتراقص، وفم
الصورة الدقيق يبتسم، وصورة "هاجر" أمام عينيها تبتسم، وفم الصورة
الدقيق يبتسم، فتبتسم " لبنى" وهي تتأوَّه، تبتسم وجبهتها تعرق. كم أنت
متعب يا "محمد"؟ هو لابد "محمد"، الولد مشاكس حتَّى في
ولادته، لو كانت "هاجر" لنزلت بسرعة.
في هذه الليلة
الشتاء قلبه جاف وغير رحيم، السِّيجارة بين أصابعي ترتعش، الشَّارع الملتصق بالبيت
هادئ، اللمبة "النيون" القديمة تبصق ضوءًا باهتًا، و"لبني"
كفَّت عن الصراخ، لكن عينيها كانتا تدمعان، "لبنى" عيناها حمراوان
وتشهق، ولفافة بيضاء ساكنة بجوارها، لفافة بيضاء تحوى شيئًا صغيرًا جدَّا، رَفَعَت
إلىَّ عينيها وقالت: "انظر". أصابعها كانت ترتعش كسيجارتي، أصابعها
أزاحت طرف اللفافة عن وجه صغير أبيض، وجه مدوَّر كالقمر، وجه ينير كالقمر، وجه على
حوافِّه سطع لون أزرق كلون مياه النَّهر الصَّافية، مددت أطراف أصابعي أتلمس
الصَّدر الضئيل، القلب واقف لا يدق، واللون الأزرق - لون مياه النَّهر الصَّافية -
يغزو الذِّراع الطَّري، هو اللون الأزرق سيتدفَّق فَيُغرق كل هذا الجسد الصغير
جدًا. "لبنى" قالت: "هاجر". صيف استوائي تفجَّر جُوَّاي، صيف
حار بخَّر ريقي وجفَّف حلقي، سحبت أصابعي من فوق صدرها الضئيل، "هاجر" تعشق
الاستحمام في النَّهر، غطَّيت الوجه المدوَّر بطرف اللُّفافة، وعندما استدرت تجاه
باب الغرفة قالت "لبنى": "إلى أين؟". قلت: "أشعر
بالظمأ".
"هاجر" في لفافتها البيضاء موضوعة على طرف السَّرير، "لبنى"
قاعدة تنظر إليها، ودموعها تنزل، أنا فرطت وجهي وقلت: "يا ستِّى، الله كبير،
يعلم أنني غير قادر على رعايتها الآن". ولأنها لم تتوقَّف عن البكاء قلت:
"كم أنا جائع". ولأنها لم تتوقَّف عن البكاء أخذت أدندن: "فكَّروني
ازَّاى". أدندن والدَّمعة تعارك عيني، قلت لـ"لبنى": "البنت
هاجر مثل أبيها مدهشة، هي أميرة كبيرة المقام، رأت الدنيا صغيرة فتركتها، هاجر
أميرة مدهشة". و قلت لـ"لبني": "ورقيقة مثل أمها، رأتني فقيرا
فأراحتني من شراء اللعب، وأراحتني من شراء الملابس وأراحتني من شراء الحلوى!".
اللمبة "النيون" المعلَّقة في جدار
الغرفة ما زالت تبصق ضوءًا باهتًا، والبرد يتقافز فى الدُّولاب وفي الكوميدينو
وتحت السَّرير، ويصفع بشدَّة اللُّفافة البيضاء الصغيرة، قلت لـ"لبنى":
"سأنام". قالت: "وأين تنام هاجر؟". قلت: "سأضعها على
الكنبة التي في الصالة". همست: "وحدها!؟ ستخاف". قلت: "سأضعها
هنا عند الدولاب". قالت: "على الأرض!؟ ستموت من البرد". قلت:
"سأضع تحتها وسادة". مدت "لبنى" ذراعيها وقالت: "لا لا، هاتها
هنا في المسافة الصغيرة جدَّا التي بين جسدينا ". وقالت: "لا تنم بعمق
فتنقلب عليها وتكتم أنفاسها".
***
أرض خضراء شاسعة،
وبحر على البعد لا نهاية له، وقطار يجرى، قطار عرباته فارغة، فقط أنا
و"هاجر" في إحدى هذه العربات، "هاجر" من الشبَّاك تنظر إلى
الشَّجر الذي يجرى وتضحك، ضحكة "هاجر" جعلت قلبي نط إلى أعلى حتى رأسي،
ونط إلى أسفل حتى أصابع قدمي، "هاجر" رأت قلبي يتنطط فقفزت إليه
وأمسكته، رأسي دار ولصقت على خدِّها قُبلة، القطار يجرى، من نوافذه تبدو عصافير
وهداهد تلاحقه، القطار يجري من تحت عجلاته تطلع الموسيقي، تضحك "هاجر"
وتكركر، وأنا أقذفها إلى فوق وأتلقَّاها، هي تمسك قلبي، وأنا أقذفها وأتلقَّاها،
أقذفها وأتلقَّاها، وفستانها الأحمر الصغير جدَّا، الجميل جدَّا، أطرافه ترفرف
كأجنحة الفراشات. قذفتها مرَّة أخرى إلى فوق، وعندما مددت ذراعيَّ لأتلقَّاها
رأيتها لا تعود، ورأيتها واقفة في الهواء، ثم رأيتها تطير، ومن نافذة عربة القطار
خرجت، جريت نحو النَّافذة، القطار يأكل الأرض الخضراء، و"هاجر" بين
يديها قلبي تطير مع العصافير والهداهد، تضحك وتكركر وتكركر وتكركر.

إرسال تعليق