U3F1ZWV6ZTM4MjQwMDIxNTE0NTAyX0ZyZWUyNDEyNTExMjIxODk0Ng==

قل: تعبيد؛ ولا تقل: تعليم



سأكذب لو قلت: أحببتُ المدرسة، أو عشقتُ الدِّراسة، أو مثَّل لي أي مدرِّس، ممَّن درَّسوا لي، أبًا روحيًّا، أو مثلًا أعلى.

سأقول الحقيقة دون مُداراة للذَّوق الاجتماعي، أو مراعاة للواقع النَّمطي: لقد كرهتُ المدرسة، ونفرتُ من الدِّراسة، ولم أحب أيًّا من المدرِّسين أو المدرِّسات الَّذين تناوبي على تعذيبي.. أقصد تعليمي!

لم أرغب يومًا في أن أكون مهندسًا أو طبيبًا، بالتَّالي لم أكن مضطرًّا للانتباه إلى شرح المدرِّسين في الفصل. 

عندما دفع بي أبي إلى أحد المدرِّسين الخصوصيِّين لم أكن أذهب إليه، بل أخرج من البيت إلى كورنيش "النِّيل"، أو إلى حديقة "أبو الحجَّاج"، أو إلى سينما "آمون"، في آخر الشَّهر آخذ أجرة الدَّرس الخصوصي من والدي وأنطلق إلى أحد مطاعم المشويَّات، أطلب فرخة مشويَّة كاملة بالعيش والسَّلاطة.

شهريَّة أخرى اشتريت بها إسورة وعقدا زيَّنتُ بهما معصم وجِيد البنت "ابتسام" التي همتُ بها غرامًا في السَّنة الأخيرة من الثَّانوية العامَّة.

كانت المدرسة أشبه بالمعتقل، يدخله التِّلميذ فلا يتمكَّن من مغادرته إلَّا بعد أخذ موافقة القائمين على اعتقاله، في الدَّاخل ليس هناك غير التَّعذيب البدني والمعنوي، حيث عقاب من لا يستطيع الإجابة على الأسئلة، أو من لم يؤدِّ الواجب المدرسي، ضربًا بحدِّ المساطر الخشبيَّة على عظام اليد في برد الشِّتاء، وبالصَّفع على الوجوه الفقيرة التي شقَّق الصَّقيع جلد بشرتها، هذا غير الجلوس لساعات طويلة في حصص مملَّة لسماع ما لا أحبُّه ولا أفهمه.

أرواح المدرِّسين على أبعد مسافة من سموِّ روح المعلِّم، في أقرب نقطة من أرواح صولات وضبَّاط جيش عسكري، يعشقون الشَّخط والنَّطر، إلقاء الأوامر، إذلال المرء ليكون جيِّد الطَّاعة، منفِّذا للتَّعليمات دون تفكير، متهيِّئا لبلع التَّكدير والإهانة راضيًا، مستعينين في ذلك بتكرار مقولات برَّاقة مثل هذا البيت الشِّعري الشَّهير: "قف للمعلم وفِّه التبجيلا. كاد المعلِّم أن يكون رسولا". أو هذا القول المأثور: "من علَّمني حرفًا صرت له عبدًا". إنَّه ليس تعليمًا للأرواح بقدر ما هو تعبيد لها!

حلمي الكبير أن أكون فيلسوفًا، أو أديبًا، الكتب التي أتمكَّن من قراءتها في مكتبة المدرسة تصوُّر لي الفيلسوف، أو الأديب، رجلًا مفكِّرا يجلس تحت أشجار الفيافي، أو في سهول المروج، أو على شطآن البحار، يمشي الهوينى خلف قطيع من الخرفان في صحراء لا نهائية، أو يجلس وحيدًا متأملًا بين ثنيَّات الجبال؛ لم تقل هذه الكتب إنَّ الفلاسفة دخلوا المدارس في طفولتهم، بل انطلقوا نحو ممارسة حرِّيتهم بجموح، شربوا الفلسفة من العالم حولهم، ومن معلِّمين لم يكونوا غير أناس بسطاء همُّهم هدم الأسوار التي تأسر العقول، لا هدم كرامة التلميذ ليكون فيما بعد مواطنًا رخوًا طيِّعا يسهل حكمه بالفساد والطُّغيان!

الفلاسفة يقودون الإنسانيَّة بالفكر، ويظلُّون نجومًا لامعة لا تخبو أبدًا لآلاف السِّنين.

الفلاسفة أناسٌ ضد الفناء، أصحاب خلود.

تكلَّمت الكتب عن عباقرة غيَّروا التَّاريخ دون أن يدخلوا مدرسة، بل صارت اكتشافاتهم، وإنجازاتهم، مواضيع بارزة داخل المناهج التعليميَّة! رأيت في "العقَّاد" أبًا روحيًّا ومثلًا أعلى، فهو الأديب الفيلسوف الذي علَّم نفسه بنفسه، تفلسف وكتب الرَّوائع ليصير محل دراسات لا تنقطع، تُعدُّ فيه الأطروحات الأكاديميَّة المؤهِّلة لدرجات الماجستير والدُّكتوراة في مختلف الجامعات المصريَّة والعربيَّة، والأوروبيَّة أحيانًا!

وحتَّى أحقِّق، كتلميذ، معادلة متوازنة توائم بين رغبة أبي وأمي في أن أصبح طبيبًا يمتلك سيَّارة فيات 128بيضاء مثل تلك التي يمتلكها الدُّكتور "جمال أبو زيد"، كان أشهر طبيب في "الأقصر"، ورغبتي في التَّحليق حرًّا كفيلسوف، أجدت القفز من فوق أسوار المدرسة، أدخلها بناء على رغبتهما وأهرب منها تحقيقًا لرغبتي! وإذا شدَّدت جهات الحصار المدرسي إجراءاتها الأمنيَّة في يوم ما أجدني مضطرًّا للهروب داخل المكان، فألجأ إلى قراءة كتبي المفضَّلة تحت "التَّختة"، لأطير إلى وديان بعيدة عن واقع الفصل الدِّراسي الكئيب!

كتب كثيرة مزَّقها المدرِّسون، والمدرِّسات، عندما ضبطوني متلبسًا بقراءتها خُلسة

المدرسة بالنِّسبة لي ماضٍ مر، صارعته وقتها، أستطيع تذكُّر شيء جميل حدث خلال هذا الماضي، حدثٌ مهمٌّ كان له ما بعده؛ ذلك عندما قرأ الأستاذ "أحمد أبو الوفا"، مدرِّس اللغة العربيَّة في الثَّانوية العسكريَّة، وكان مُعلمًا فيلسوفًا غريبًا عن الواقع التَّعليمي المحيط به،  أوَّل قصَّة قصيرة كتبتُها، ليذيِّلها بنصيحة تحضُّني على القراءة للعظماء أمثال "يحيى حقِّي" و"توفيق الحكيم" و"نجيب محفوظ".

و"عبَّاس محمود العقَّاد".

وكان طبيعيًّا، في نهاية  مشوار تعليمي لم أقتنع به يومًا، أن أحصل على شهادة متدنِّية؛ دبلوم فوق متوسِّط من معهد إعداد فنِّيين.

كما كان طبيعيًّا أن أحقِّق حلمي الذي آمنت به؛ كتابة  أعمال أدبيَّة تحمل "فلسفة" تخصُّني، وتصير لي مؤلَّفات محل جدل قِرَائي، ويتموضع بعضها في دراسات إعداد ماجستير ودكتوراة.

وأن أقتني فيات 128 نفس موديل سيَّارة الدُّكتور "جمال أبو زيد"!

خلاصة الكلام: إنَّه كما قيل في الأزمان السَّابقة: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. أقول الآن: ليس بالمدرسة وحدها يصنع الإنسان مجده.

 

 

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة