خلال الأسبوعين الأخيرين تمكَّنتُ من تحقيق ما يمكن وصفه، حسب قدراتي القرائيَّة، بالمعجزة؛ إذ استطعت الانتهاء من قراءة ثلاث روايات بالتَّمام والكمال، إحداها رواية "أن تحبّك جيهان"، للرِّوائي المصري "مكَّاوي سعيد".
وهي رواية طويلة للغاية، تزيد عن سبعمائة صفحة، طُبعت حروفها ببنط صغير، تراصَّت فيها جُمل الحوار مترادفة مع السَّرد، ليخرج شكل الصَّفحة "مكبوس" كلامًا، ولتخرج الرِّواية في النِّهاية "مكبوسة" كتابة!بدأتُها وأنا "أقدِّم رِجل وأخَّر رِجل"، فمنذ
تجربة سابقة مع رواية لـ"إبراهيم الكوني"، لها ذات الحجم تقريبًا،
عنوانها ملحمي طويل، لا أتذكَّره، تهت داخلها توهة ناقة جرباء في صحراء جرداء لا
كلأ فيها ولا ماء، وأنا أخشى الاقتراب من هذه الرِّوايات فائقة الحجم.
حتَّى منتصف الرِّواية، أي عند الصَّفحة الثَّلاثمائة والخمسين، استمر سرد "النَّميمة" عاصفًا، و"أحمد الضَّوي" و"ريم مطر" و"جيهان العرابي"، الشَّخصيات المحوريَّة داخل الرِّواية، يحكون لنا فصولًا مطوَّلة في تفاصيل علاقاتهم المشتركة، هذا بخلاف كومة تفاصيل أخرى تخصّ علاقاتهم بشخصيَّات ثانويَّة تشتبك مع هذه الثَّلاث شخصيَّات الرَّئيسية، وأنا كقارئ أحاول العثور على نفسي داخل حكايات "النَّميمة" هذه فلا أتمكَّن من ذلك، فكل ما يجري خارج مشغوليَّاتي، قضايا ليست قضاياي.
أجاد "مكَّاوي سعيد" في رسم هذه الشَّخصيات، حوَّلها من ورقيَّة إلى لحم ودم بإجادة بالغة، حتَّى ليكاد القارئ يراها، يشعر بدفء أجسادها الحاضرة بعنفوان، لكن الموضوع لا يتطوَّر أبدا، فقط ينقِّل الكرة ببراعة بين شخصيَّاته، "المباصاة" دائمًا في وسط الملعب دون محاولة تقدُّم لإحراز هدف، هذا ممل وبلا جدوى.تركت "ممطوطة" مكَّاوي مقرِّرًا التَّكفير عن
قراءتي لشطرها الأوَّل بقراءة رواية ثقيلة لأديب عالمي ثقيل، من الطِّراز الذي
يعتبره بعض مثقَّفينا متفوِّقًا عن طُرُز روائيِّينا العرب بمسافات تقدَّر
قياساتها بـ"السِّنين الضَّوئية"!
إنَّها رواية "المحاكمة"، للتّشيكي "فرانز كافكا"، مات عنها قبل استكمالها، وبينما يحتضر طلب من صديقه إبادتها، لكن صديقه لم يعمل بالوصيَّة، بل وضع، أو أشرف على وضع، نهاية "على ما قُسِم" لهذه الرِّواية، وقام بنشرها.
ولأن "المحاكمة" من أواخر ما كتبه "كافكا" يمكن اعتبارها "بقلب جامد" ممثِّلة لإحدى النِّقاط الأعلى على تدريج الرَّسم البياني الموضِّح لقدرة "كافكا" الإبداعيَّة، فقد كتبها بعد أن ارتقى ذروة خبرته الخاصَّة في السَّرد القصصي والرِّوائي.ما أن بلغت منتصف هذه الرِّواية، التي لا يبلغ طولها ثلث
طول "أن تحبّك جيهان"، حتَّى تأكَّد لي أنَّ كثيرًا من الاحتفاء النَّقدي
الأكاديمي، العربي تحديدًا، بهذه الرِّواية أمر مبالغ فيه، خصوصًا كلامهم الكبير
عن الأسئلة الوجوديَّة داخل "المحاكمة" و و و و.. وكل هذه التَّناولات
العميقة! بدا لي كثير من كلام النقَّأد هنا من قبيل نشر شوك "القنفذ"،
أي إظهار البسيط مركبًّا، والضَّحل عميقًا، والمسالم مفترسًا، لتصب كلّ هذه الرُّؤى "القنفذيَّة"
في خانة قدرة النَّاقد "النَّافذة والنفَّاذة" على تفكيك النَّص
واستنطاقه حتى ولو بعكس ما يقوله!
فالرَّاوي العليم بأحوال السَّيد "جوزيف ك"، داخل رواية "المحاكمة"، لم يتفلسف أبدًا، فقط كان يحكي لنا ببساطة شديدة تجربة "ك" القاسية داخل، وحول، دهاليز القضاء، ليجعله "شاهد إثبات" في اتِّهام هذه المؤسَّسة بالفساد، هكذا أجرى "كافكا" أحداث روايته في اتجاه هذا الأمر بوضوح، ثم لا عمق أبعد من هذه الفكرة.
كما أنَّ "كافكا" اعتمد الحوار عامود ارتكاز رئيسيًا لبناء هذه الرِّواية، في حين أنَّ الحوار عامود ارتكاز رئيسي في بنية الكتابة المسرحيَّة، لا الرِّوائية، ومع ذلك كان يمكن النَّظر إلى الأمر من زاوية التَّجريب، وقبوله، لو أنَّ الحوار مثَّل عاملًا إنمائيًّا داخل "المحاكمة".أفلتُّ من "أن تحبّك جيهان" فوقعت في "المحاكمة"، والعمر ليس طويلًا حتَّى يمكن الصَّبر على استكمال قراءة أعمال تعكِّر المزاج، فتركت الرِّواية "الذي يسبق كاتبها روائيينا العرب بسنوات ضوئية!" غير آسف عليها، لكن الغضب والحنق كانا قد ملآنني، إذ ليس سهلًا عليَّ ترك كتاب شرعت في قراءته دون استكماله، فشعرت بالأسى، وأنَّني داخل "على دور اكتئاب"، فقلت لنفسي: هذا وقت قراءة الرواية "اللي في بالي". فعنوانها دال على موضوعها الآمن إلَّا إذا كانت هناك خدعة؛ "ترنيمة سلام" للرِّوائي المصري "أحمد عبدالمجيد".
بعد قراءة بضع صفحات من "التَّرنيمة" أيقنت أنَّها ثالثة أثافي خيبتي القرائيَّة خلال الأيَّام الماضية، فقد انكشفت فكرتها "الطَّيبة" مبكِّرًا جدًّا، ثمَّ بالتَّقدم داخل الرِّواية تتطوَّر "الطِّيبة" إلى "سذاجة"، ثمَّ تتحوَّر "السَّذاجة" إلى "عبط"، وكأنَّ "عبدالمجيد" يرى القرَّاء أطفالًا بريئين، أو أناسًا لم يبلغوا طور الإدراك القرائي بعد، لذلك لن يتساءلوا عن أسباب اختيار القطار كمكان للحكي في حين يمكن أن يكون طائرة محلِّقة إلى "فنزويلا"، أو عيادة طبيب شهير متخمة بالزَّبائن الذين ينتظرون الكشف أوقاتًا طويلة فيتمكَّنون من تبادل سماع قصص حياتهم، أو أو أو.. لماذا القطار طالما أنَّ روح السَّفر به لم تكن عاملًا مؤثِّرًا داخل الرِّواية؟! لن يسأل السُّذج عن تحوُّلات "خالد محفوظ" النفسيَّة غير الممهَّد لها بحنكة، لن يسألوا عن ركاكة "دافع" و"تناول" و"مراحل" و"نتيجة" اعتكاف الحرم.ومع أنَّ "ترنيمة سلام" هي الرِّواية الأسوأ
فنيًا، بين الرِّوايات الثلاثة، فقد أفلح موضوعها "التَّنموي بشري" في دفعي
لاستمرار قراءتها حتَّى النِّهاية، رغبة في الاستزادة بأكبر قدر من سلام ذاتي يمكِّنني
من العودة مرَّة أخرى لـ"مكَّاوي سعيد"، و"فرانز كافكا"، لاستكمال
قراءة روايتيهما المملَّتين.
وقد حدث؛ إذ قدَّمت لي "ترنيمة سلام" يد العون
كي أعود إلى تجرُّع "أن تحبّك جيهان" حتَّى آخر قطرة، و"بلبعة"
المحاكمة حتَّى آخر حبَّة.

إرسال تعليق